مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: الأيام الجميلة

حوراء حرب*

 



ما أكثر المشاغل والضغوط الحياتية التي تمنعك من زيارة أشخاص تكنّ لهم كل المحبة والتقدير والاحترام, فيؤلمك عندها الشعور بالتّقصير, وتشعر بأنك قليل الوفاء لهم. هذا ما أحسست به حين مررت ببيت أبي أحمد.  وأبو أحمد كان من الأصدقاء المقربين لوالدي، وكان والدي يعتمد عليه في كثير من الأمور ويسرّ له من أسراره.

لذا قررت ذات يوم ودون تردد أن أمرّ لإلقاء التحيّة عليه. طرقت باب بيته المتواضع، ففتح لي رجل سبعيني، وقد بانت على خطوط وجهه التي حفرتها مآسي الزمن، علائم الفرح الممزوج بشيء من العتب. وجلسنا نتبادل أطراف الحديث، وأجمل ما نتحدث عنه هو تلك الذكرى التي لا زالت تفاصيلها محفورة في أعماق قلوبنا ووجداننا. فقال: "رحم الله أباك, أقسم أنّ قلبي ما أحبّ أحداً كما أحبّه, لقد كان قادراً على امتصاص مشاعر الغضب من النّاس وتحويلها إلى مشاعر إيجابية. كان يحمل همّ الناس ويسعى للتخفيف عنهم، ففي كل مرة ألقاه كان يسألني عن أحوالي وأحوال الناس". 

 وصادف في أحد الأيام عندما قابلته أنني كنت غاضباً، ولكن أنستني رؤيته غضبي عندما بدأ بالكلام قائلاً: "أخي أبا أحمد, أريد أن أوكل إليك أمراً في غاية الأهمية. بما أنك تعرف أهل القرية جيّداً, أريدك أن تطلعني على أحوال الناس, خاصّة الفقراء منهم, على أن يبقى هذا الأمر سراً لا يعرفه أحد سوانا". فقلت: "لا تقلق يا شيخ راغب, سأبذل في هذا الأمر أقصى جهدي".  نعم يا بنيّتي, عملت بجهد كبير حتّى اكتملت لائحة بأسماء فقراء القرية. ومنذ ذلك الحين والشيخ راغب يعطيني المال لإيصاله إلى هذه الأُسر. إلى أن جاءت إحدى ليالي الشتاء الباردة حيث كنت نائماً، وإذ بزوجتي أم أحمد توقظني لتقول إنها سمعت طرقاً على الباب, فشعرت بالاستغراب، فمن هو زائرنا في مثل هذه الساعة؟ فالساعة كانت تشير إلى الثالثة فجراً.
- "من الطارق؟"
"أنا الشيخ راغب حرب".
- "أهلاً بالشيخ، تفضل بالدخول".
"لا أريد الدخول، فأنا على عجلة من أمري، ولكن أريدك أن تسلم هذا المبلغ من المال إلى مستحقيه من الفقراء"
- "ولكنها الثالثة فجراً؟ ألا ينتظر المبلغ إلى الصباح؟"
"سأغيب عن القرية عدّة أيام ولا أحب أن يبقى المبلغ في جيبي فقد يكون أصحابه بأمسّ الحاجة إليه".

معه حق، فآلام الناس وأوجاعهم لا تهدأ في الليل ولا تسلو عند الفجر، فكيف تقرّ تلك العين قبل أن تبلسم شيئاً من آلامهم وشجونهم؟ ورغم كل تلك العواطف الجيّاشة التي كانت تعتمر في صدره وسعيه الحثيث لإسعاد الآخرين فإنه كان يتعمد الابتعاد عن سماع عبارات الشكر والامتنان, فغالباً ما كان يرسل الأموال للفقراء مع أحد الشباب المؤمنين. وأذكر أنه حينما نفقت (ماتت) بقرتان لأحد أبناء القرية ولم يكن له مصدر عيش غيرهما, أخذت أنا وعدد من الإخوة على عاتقنا جمع تبرعات من أهل القرية للتعويض عليه بمبلغ يمكّنه من شراء بقرة واحدة على الأقل, وبينما أنا والشهيد الحاج مالك نحّال ساعيان في هذا الأمر وإذا بنا نلتقي بالشيخ راغب عائداً إلى منزله, حيّانا بلطفه المعتاد ثمّ سألنا عمّا نفعله فأخبرناه بالقضيّة.
- "ما هو المبلغ الذي جمعتماه حتّى الآن؟"
"ثمانمائة ليرة"
- "وكم يلزمكم بعد" ؟
"أربعمائة لكي نتمّ ثمن بقرة واحدة".
- "أولاد حلال, معي أربعمائة ليرة، خذوها وأعطوها للحاج واتكلوا على مولاكم, آجركم الله"
"ألن تذهب معنا يا شيخ؟!!"
- "لا،اذهبا وحدكما, سأتفقّد منزلي".

فذهبت أنا والحاج مالك وأوصلنا الأمانة. وأثناء عودتنا سألني الحاج مالك عن السبب الذي منع الشيخ راغب من الذهاب معنا لإيصال المال، فأجبته بأني أعرف أن الشيخ يهمه أن يصل المال إلى أصحابه، ولا يحب أن يشعر الفقراء بالامتنان له، فالفضل كل الفضل لله تعالى. أما أعجب ما رأيت من أبيك فهو عندما عملت حارساً في مبرّة السيّدة زينب عليها السلام, رأيت منه ما تدمع له العين ويخشع له الفؤاد. كان يأتي، إلى المبرّة نهاراً ليلاعب الأولاد, يحمل لهم الحلوى, يحتفل معهم في المناسبات الدينيّة والأعياد, يلعب معهم وكأنّه واحد منهم. أما في الليل فقد رأيته يأتي رغم صعوبة الظروف الأمنية، وسوء الأحوال المناخية، ليتفقّد أحوالهم ويسأل عنهم, يغطّيهم وهم نيام, ينظر إلى وجوههم بعطف شديد ويمسح على رؤوسهم.  لقد منع المعلّمات والمربيات من إدخال عصا إلى المبرّة, حتى أنّ إحداهنّ يوماً شكت له كثرة المشاغبة من الأولاد وقالت: "سأحضر عصا حتّى لو لم توافق" فأجابها ممازحا: "أحضريها لكي تكوني أول وآخر من يضرب بالعصا في هذا المكان" ثمّ أكمل حديثه ولكن بجدّ وحزم هذه المرة: "أختي العزيزة, لا تكون العصا حيث يكون الأيتام, يكفيهم ما قاسوه على صغر سنّهم, لا تكوني وجور الزمان قاسية عليهم".  أعرف يا ابنتي أنه كان يعامل الأيتام كما كان يعاملك وإخوتك. فلعمري لقد كان أباً حنوناً لهم. رحم الله تلك الأيام فوالله لقد كانت أجمل أيام حياتي". ولم نشعر بمرور الوقت إلا حين صدح صوت المؤذن، عندها استأذنت من أبي أحمد بعد أن وعدته بزيارة ثانية أسترجع معه فيها تلك القصص التي لا يبرح الفؤاد يطرب لسماعها.

* ابنة الشيخ راغب حرب "رحمه الله"

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع