حوار مفترض مع الإمام الحسين عليه السلام
آمال جمعة
حدّث كثيراً.. وزخرت الكتب والروايات بأقواله وأحاديثه قبل أن يختم حياته الشريفة بمصرع.. هو لاقاه (1)، وفي يوم.. ليس كمثله يوم (2)، وبذلك بدأ حديث الدم الذي لا يزال ينضب صارخاً.. منذ ذلك اليوم وحتى الأزل. ولكن،اخترنا في هذا المقال حديث الأقوال وهو حديث مفترض مع الإمام الحسين عليه السلام يستنطقه فيه موالٍ ويسمع جوابه مما ورد في أمهات مصادر الحديث والكتب. جلست أنتظر.. عرفت أنه سيمرُّ من هذا الطريق، وإذ بريح تسابق الرّحمة فاستبشرت بقرب قدومه. تمنّيت لو يجيب دعوتي فيشرفني ويستريح من سفره الطويل.. كان ينظر إلى البعيد وفي عينيه حزنٌ عميقٌ عميق ومع ذلك لبّى دعوتي بلطف وكرم قائلاً:
- أحسن الله لنا ولكم الصّنيع، وأثابكم على ذلك بأفضل الذُّخر
أجبته بفرح وسرور: يا بن رسول الله، أنا من شيعتكم.
- فأجاب عليه السلام: لا تعجل.. "فإن شعيتنا من سلمت قلوبهم من كل غشّ وغلّ ودغل، ولكن قل أنا من مواليكم ومحبيكم".
وما فضل حبّكم سيدي؟
- من أحبّنا لله وردنا نحن وهو على نبيّنا صلى الله عليه وآله هكذا وضمّ إصبعيه ومن أحبّنا للدنيا فإن الدنيا تسع البرّ والفاجر. ثم سكت قليلاً كمن استوقفته فكرة عابرة، ثم أكمل وكأنه يحدّث نفسه "ما ندري ما تنقم الناس منّا، إنّا لبيت الرّحمة وشجرة النبوة ومعدن العلم".
* مستقى العلم من عندنا
قلت: يا بن رسول الله مسألة.
- هات.
كم بين الإيمان واليقين؟
- أربعة أصابع.
كيف؟
- الإيمان ما سمعناه واليقين ما رأيناه، وبين السمع والبصر أربعة أصابع.
فما عزّ المرء؟
- قال: استغناؤه عن الناس، واعلم أنّ من نفّس كُربة مؤمن فرّج الله تعالى عنه كرب الدنيا والآخرة.
قلت: فما أقبح شيء؟
- قال: الفسق في الشيخ قبيح، والحدة في السلطان قبيحة، والكذب في ذي الحسب قبيح، والبخل في ذي الغناء، والحرص في العالِم.
قلت: صدقت يا بن رسول الله.
فأطرق الحسين عليه السلام قليلاً، ثم قال:
- من أي البلدان أنت؟
من أهل الكوفة.
- قال عليه السلام: يا أخا أهل الكوفة أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا ونزوله على جدّي بالوحي. يا أخا أهل الكوفة أفمستقى الناس العلم من عندنا فعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون. أذهلتني مقالته عليه السلام فسكتُّ ولم أعد أدري جواباً.
فنظر إليّ قائلاً:
- من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك.. والعاقل من اتقى الله وتمسّك بطاعته. أعاد ودّ حديثه لي حماسة سؤاله مجدّداً فقلت:
فكيف نعرف سبيل طاعته؟
- إن الله عزّ وجلّ ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه واستغنوا بعبادته عن عبادة سواه.
* معرفة الله والإمام
يا بن رسول الله فما معرفة الله؟
- معرفة أهل كل زمان إمامهم الذين يجب عليهم طاعته. وعندما شعر أنني لا زلت أنتظر منه توضيحاً أردف قائلاً: من أطاع الله من ولدي وجبت طاعته.. فإنّا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحق الذين أودعه الله عزّ وجلّ قلوبنا وأنطق به ألسنتنا.
فكيف نعرف الإمام؟
- لعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق.
فمن قائم هذه الأمة؟
- قائم هذه الأمة هو التاسع من ولدي وهو صاحب الغيبة، وهو الذي يقسم ميراثه وهو حي. ثم طأطأ رأسه ونكث في الأرض وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه فقال: وهو قائمنا أهل البيت.. يصلح الله تعالى أمره في ليلة واحدة.
* إلى أين.. سيدي؟
أخبرني سيدي عن خير الدنيا والآخرة؟
- إن من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.. والسلام.
إلى أين سيدي؟
قال لي رسول الله يوماً: "يا بني، إنّك ستساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين.. وإنك تستشهد بها ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد".
ولكنّك سيّدي ابن بنت رسول الله وبقيّة أهل بيت النّبوة.
- الحمد لله الذي فضَّلنا على كثير من عباده المؤمنين، وعلى جميع المخلوقين وخصّ جدنا بالتنزيل والتأويل والصّدق ومناجاة الأمين جبرئيل عليه السلام، وجعلنا خيار من اصطفاه الجليل ورفعنا على الخلق أجمعين. أنتم أكرم الخلق، فأين العدل سيدي أن تُستشهد بعيداً غريباً عن ديارك؟
- أما علمت أنَّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل؟
* لله الأمر
فلِمَ ذَهابك إليهم سيدي وهم يضمرون الغدر بك؟
- من البلاء على هذه الأمة أنَّا إذا دعوناهم لم يجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرنا.. وها هم دعونا لينصرونا ثم هم يقتلونا.
وكيف عدلوا وانحرفوا عن مواقفهم سيدي؟
- النّاس عبيد المال، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت به معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديانون.
فهل أنتم سائرون إلى مصير محتوم؟
- لله الأمر من قبل ومن بعد، وكلُّ ساعة ربّنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء.
فما رجاؤكم سيدي؟
- أما والله إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قُتلنا أم ظفرنا.
فما هدفكم من قتال القوم وإلحاق الهزائم بهم؟
- ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً.
وهل الموت هو خيرٌ لكم؟
- الموت خير من ركوب العار، والعار خير من دخول النار.
* أنا قتيل العَبرة
فهل هذا ما أنبأكم به جدّكم الرسول صلى الله عليه وآله؟
- قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا حسين اخرج (من المدينة) فإنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً". إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما حَمْلُك النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟
- إن الله قد شاء أن يراهنّ سبايا.
فمن يندب ويبكي عليك بعدهن؟
- أنا قتيل العبرة، فلا يذكرني مؤمن إلا بكى.
عندها لم أتمالك نفسي من البكاء والنحيب في حضرته. إذ اختلط الخوف والجزع عليه بالحزن والغضب من هذه الأمة التي تتجرأ على خامس أصحاب الكساء ووصيّة الرسول صلى الله عليه وآله، وهي لا تدري إلى أين يساق بها. نظر إليّ نظرة مشفق وقال متأهباً للرحيل:
- ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت عيناه فينا دمعة إلا بوَّأه الله في الجنّة حقباً.
مولاي، إن سرّحت رحالي وتبعتكم هل أستشهد معكم؟
- إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.. وموتٌ في عزّ خيرٌ من حياةٍ في ذل. وفقنا الله يا مولاي للّحاق بكم إن شاء...
جمع سلام الله عليه متاعه وما بين يديه وتأهّب للرّحيل قائلاً: "جمعنا الله وإياكم على الهدى وألزمنا وإياكم كلمة التقوى" ثم رفع يديه إلى السماء وقال:
- "اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدّة وأنت لي في كل أمرٍ نزل بي ثقةٌ وعدَّة.. اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك، إنّك على كل شيء قدير".
(1) "خير لي مصرع أنا لاقيه"
(2) "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"