الشيخ إبراهيم نايف السباعي
لم يعرف "مهـــديّ" طعـمـاً للسعادة منذ استشهاد صديقه "صالح"، توأم روحه، وظلّه الذي لا يفارقه، كما يصفه. فقد كان صديقه المقرّب، أشبه بأخٍ لم تلده أمّه.. يتشاركان لحظات العمل والفراغ.. يفرحان معاً.. ويحزنان معاً.. وها هو "مهديّ" تحطّ به قدماه يوميّاً عند مرقد "حبيبه" ورفيق عمره، يبكيه شوقاً وبُعداً، يبثّه همومه وشكواه، يواكبه بأخباره ويوميّاته، ويشاركه مخطّطاته المستقبليّة.. كما كان يفعل دائماً، فلم تحلْ سنوات الفراق دون عهد الأخوّة الذي جمع بينهما في يومٍ من الأيام. مشهدٌ من مشاهد كثيرة تتكرّر في حياتنا اليوميّة، وبأشكال مختلفة، يُترجم مفهوم الصداقة والأخوّة بمفهومها الأسمى الذي دعا إليه الإسلام. فما هي قيمة الصداقة وأهميّتها في حياتنا؟ وما هي آدابها؟
•من نصادق ونؤاخي؟
إنّ الناس ثلاث: إخوان، وأصدقاء، ومعارف. والإنسان قد يتعرّف على أشخاص كثيرين، لكنّ الأصدقاء من المعارف أقلّ، والصديق عزيز، والأخ قلّما يوجد، فقد تتعرّف على شخص، وقد تصادق أشخاصاً في مكان العمل، أو في فصل دراسيّ، أو في مكان سكنك، والإخوان من هؤلاء الذين تصطفيهم بصفاتهم التي يؤمَن جانبهم معها، وتأمن على نفسك إذا صادقتهم نادرون قلّة، ولذلك من العجز أو الخطأ التفريط بالإخوان.
ذكرت جملة من الآيات، والروايات، والأخبار آداباً وشروطاً لمن نريد اتّخاذهم إخواناً أو أصحاباً، ونحن بدورنا سنحاول باختصار أن نجمع بينها لنخرج بصورةٍ واضحةٍ جليّة:
أوّلاً: أن نعاشر من نثق بدينه، وأمانته في الظاهر والباطن؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (المجادلة: 22). ولذلك لا خير في مصاحبة أهل الدنيا المتمحّضين في حبّها؛ لأنّ أهل الدنيا يحثّون على طلبها، وجمعها، ومنعها، ولا شكّ في أنّ هذا يبعد الإنسان عن سبيل النجاة، وإنّما نعاشر أهل الخير، ومن يدلّنا عليه في الدنيا، ومن يطلب الآخرة. أوصى بعضهم صاحباً له يريد مفارقته بقوله: عليك بصحبة من تسلم منه بظاهر أمرك، وتبعثك على الخير صحبته، ويذكرك الله رؤيته(1)؛ أي: رؤيته تذكرك بالله. هذا الذي ينبغي أن تحرص على صحبته.
ثانياً: أن نصاحب العاقل والعالم، والحليم التقيّ.. فإنّ لصحبة العاقل فوائد كثيرة، بالإضافة إلى كونه صاحب دين، قال الإمام الصادق عليه السلام: "الإخوان ثلاثة: فواحد كالغذاء الذي يحتاج إليه كلّ وقت، فهو العاقل..."(2).
ثالثاً: أن نصاحب من نستحي ونحتشم منه؛ لأنّ آفة الأخوّة والصداقة والصحبة، أن تصل علاقتك بأخيك إلى درجة من الصحبة يرتفع عندها بينكما التكلّف والحياء، وتُعدّ هذه من الحواجز الضروريّة لبقاء العلاقة قائمة؛ لأنّ كلّ واحد منكما يغدو لا يستحي أو يحتشم من الآخر، وهذا خطير جدّاً على العلاقة والسلوك، فعليك بمعالجته.
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الحياء من الإيمان"(3)، وقال أيضاً: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً ألهاه عن محاسنه، وجعل مساويه بين عينَيه، وكرّهه مجالسة المعرضين عن ذكر الله". والحياء خمسة أنواع: حياء ذنب، وحياء تقصير، وحياء كرامة، وحياء حبّ، وحياء هيبة، ولكلّ واحد من ذلك أهل، ولأهله مرتبة على حدة(4)، لنقف على ممارسة الحياء، وتصبح لنا ملكة وعادة. ومقصدنا بأنّك لا تحتشم أمامه: أي لا تقيم له وزناً، بل احرص على مصاحبة الشخص الذي تستحي من فعل المنكر أو قوله أمامه؛ لأنّ كثرة مصاحبة هؤلاء توجب للإنسان الابتعاد عن هذه السيّئات، أمّا إذا صاحب أشخاصاً من السفهاء أو السفلة الذين لا يستحي أن يسمع أو يقول أمامهم منكراً؛ فلا شكّ في أنّه سيتجرّأ على المنكرات، بل ربّما أعانوه عليها.
•أخبار تسكّن قلب محتار
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس لك بأخٍ من احتجتَ إلى مداراته"(5).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تُسمِّ الرجل صديقاً سمةً معروفةً حتّى تختبره بثلاث:
1- تغضبه، فتنظر غضبه يخرجه من الحق إلى الباطل؟
2- وعند الدينار والدرهم.
3- وحتّى تسافر معه"(6).
لا تصاحب: الأحمق، الكذّاب، صاحب الغاية الدُّنيويَّة، الضَّال المُضلّ، الفاجر، الفاسق، البخيل، القاطع لرحمه، الكافر، الشِّرّير، صاحب اللهو، الجبان، ناشر المثالب، رهين المداراة، مجهول الموارد والمصادر، الزاهد بأخيه، صاحب البدعة، النمّام، الخائن، الظلوم، متتبِّع العيوب.
- لا تعاشر الحسود: وهو الذي يحسد إخوانه على ما يراه من النعم عندهم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قد قدّر بين العباد في الأرزاق والعطيّات، والمواهب والأموال، ونحو ذلك، فينبغي للأخ إذا آخى أخاً له ألّا يكون ممّن يحسده على نعمة عنده، بل أن يغبطه ويحمد الله سبحانه وتعالى أن وهبها الله لأخيه، والله عزَّ وجلَّ قد قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (النساء: 54) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "... ولا تحاسدوا"(7).
وقد يصاحب أيٌّ منّا واحداً من هؤلاء، فعندها لا ينبغي أن نسمّيها صداقة أو أخوّة، بل لا يعدو كونها معرفة لا أكثر، فكن منها على حذرٍ شديد.
انطلاقاً ممّا تقدّم، ما هي أبرز آداب الصداقة والمؤاخاة؟
•معرفة آداب الأخوّة تعطي الصداقة القوّة
ولكي تدوم الأخوّة، وتستمرّ الصداقة بين الإخوان والأصدقاء، كان لا بدّ من ذكر آداب وسنن يجب مراعاتها وتطبيقها؛ عبر معرفة بعض الأبواب قبل الدخول في أيّ علاقة، فلا يصحّ إغلاق أبواب الخير إن فُتحت، فنخسر الخير الكثير المتأتّي من تلك العلاقات.
1- حُسن الخُلق: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ خير ما يُعطَى الإنسان خُلق حسن، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا في الخُلق الحسن، حيث قال تعالى في حقّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (آل عمران: 159). ولقد أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمخالطة الناس بالخُلق الحسن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ: "وخالقِ الناس بخُلق حسن"(8). وإنّ اقتداءنا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم واجب، إضافة إلى أنّ حسن الخُلق والتخلّق بالأخلاق الإسلاميّة بين الإخوان يولّد الأخوّة المتينة، ويؤلّف الطباع، ويقارب بينهم أكثر.
2- الصدق وعدم خلف الوعد: وأن يكون صادقاً فلا يُخلف وعده؛ لأنّ إخلاف الوعد يباعد بين الإخوان، ويفقد الصداقة والأخوّة رونقهما وحيويّتهما، وهي من علامات النفاق، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "آية المنافق ثلاث.. وإذا وعد أخلف"(9).
3- مشاورة إخوانك: وليست المشاورة هنا قضيّة مجاملة، وإنّما قبول ما يشير به عليك إذا رأيت فيه وجه الصواب، ولا تشاور لمجرّد أن تُظهر له أنّك لست مستبدّاً، بل شاركه في أمرك، واعمل برأيه أيضاً إذا كان رأيه صائباً، فقد قال الله لنبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (آل عمران: 159).
وسوف يتناول العدد القادم مجموعة من الآداب العمليّة، التي من شأنها أن تضمن قيام صداقة حقيقيّة ومستمرّة، وأن تكون لله.
1.غرر الحكم، ص429، ح9783؛ وهناك أحاديث كثيرة ذكرت في الباب.
2.تحف العقول، الحرّاني، ص323.
3.كنز العمال، المتقي الهندي، ج3، ص119.
4.الاختصاص، الشيخ المفيد، ص229.
5.غرر الحكم، ص284، الحديث (الحكمة) 9551.
6.بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص180.
7.إرواء الغليل، محمد ناصر الألباني، ج8، ص99.
8.وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العاملي، ج16، ص104.
9.مستدرك سفينة البحار، الشاهرودي، ج10، ص128.