الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الدخان: 1-6)، صدق الله العليّ العظيم.
سُمّيت هذه السورة بسورة الدخان، لورود كلمة "الدخان" فيها، وهي من السور التي تُتلى في ليلة القدر. والآيات الأولى من هذه السورة، تبيّن بوضوح أنّها تهتمّ بموضوع ليلة القدر؛ ولذلك فمن الأفضل أن نتحدّث في مفهوم هذه الليلة، ولا سيّما أنّ الموضوع غامض، وأصبح في نفوس الجماهير من المسلمين سرّاً من الأسرار.
•ليلة إنزال القرآن
تبيّن هذه السورة معنىً لليلة القدر يختلف عن المعنى الشائع، لأنّها تقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾؛ أي إنّا أنزلنا القرآن ﴿فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1) تأكيد أنّ القرآن أُنْزِل في ليلة القدر. فإذاً، الليلة المباركة هي ليلة القدر التي أُنْزِل فيها القرآن الكريم.
والقرآن فيه تبيان لكلّ شيء، وتوضيح للحــلال والحــرام، والصحيـــح والفاسد، وللحقائق الشرعيّــة، وتحديـد القيم الغيبيّة، والمفاهيم والتعاليم السماويّة.
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾، هذه الآية، كالحال بالنسبة إلى الجملة السابقة. ومعناها: إنّا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، في الليلة المباركة، حيث كنّا فيها منذرين؛ أي بصدد الإنذار، لا الخلق والتكوين؛ أي كنّا بصدد تشريع المحرّمات.
﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، جميع الأمور المحكمة الثابتة تتّضح في هذه الليلة.
﴿أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾، وهذه الآية أيضاً كالحال بالنسبة إلى ما سبق؛ أي في حال كنّا مرسلين، وبصدد إرسال التعاليم الدينيّة والأحكام الإسلاميّة، كنّا نبعث هذه الأمور المحكمة.
•ليلة الدستور
فملخّص معنى هذه الآيات: إنّا في حالة الإنذار، وإرسال الرسل، والرحمة من الله، أنزلنا القرآن الكريم في الليلة المباركة. في الحقيقة، هي ليلة توضيح أبعاد كلّ شيء للأمّة، أو بالتعبير المعاصر ليلة الدستور؛ ولذلك، فعندما تحتفل الأمّة بليلة القدر، فإنّها تحتفل بذكريات أعزّ ليلة من ليالي تاريخها، فتجدّد عهدها بهذه الليلة، وتضع أمامها صوراً جديدة عن نزول القرآن، لكي تحاسب نفسها عمّا بدر منها في الماضي، ونأخذ خطّاً وتصميماً للمستقبل.
•الصبر والصوم
في الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ ليلة القدر باقية في هذه الأمّة حتّى القيامة. ومعنى هذه الأحاديث، أنّ ليلة القدر لها معنى آخر، غير نزول القرآن. فما هو ذلك المعنى أيها المحتفلون، وأيّها المؤمنون بهذه الليلة المباركة؟
أعتقد أنّ معنى ليلة القدر يرتبط، إلى حدٍّ بعيد، بمفهوم الصيام في شهر رمضان. فإذا لاحظنا أنّ الصيام تحضير للإنسان الصائم، حيث إنّه، في الدرجة الأولى، يجعل الحجب مرتفعة أمام عيون عقله، فيجعله يرى، ويفكّر، ويتعلّم، ويفهم بصورة أكثر من الأيّام التي يُكْثِرُ فيها الأكل. ومن ناحية ثانية، الصيام يجعل الإنسان متحسّساً آلام الآخرين، وهكذا يجعل عاطفته أرهف وأكثر إدراكاً وشمولاً.
ومن ناحية ثالثة، الصيام يُكوِّن نوعاً من التدريب والصمود في نفس الإنسان، حيث إنّه يقف أمام مشتهياته، وأمام المغريات والصعوبات، وبالتالي يتزوّد بالصبر. وللصبر مع الصيام علاقة طويلة، والقرآن الكريم في بعض الآيات يكنّي عن الصيام بالصبر، فيقول في الآية الكريمة: ﴿اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾ (البقرة: 153)، فالصبر في القرآن، يُراد به كثيراً الصيام.
•تقرير المصير
إنّ الصيام يعطي للإنسان الصائم هذه الميــزات الثلاث: فَهم أكثر، وتحسّس أكثر، وصبر أكثر. وهي في الحقيقة، وسائــل لاتّخاذه تصميماً لمستقبله، ولتقرير مصيره. فالإنسان الذي يصوم، وخلال صومه يرى رؤية أوضح، ويتحسّس آلام مجتمعه بصورة أكثر، ويتزوّد بالصبر لمتابعة الطريق، فهو الذي يتمكّن من وضع منهاج ومخطّط لمستقبله، ويقرّر مصيره من خلاله.
•العشرة الأخيرة
إذاً، شهر رمضان هو فترة التدريب، الذي يقرّر مصير الإنسان حسب التخطيط الذي يوضع خلاله للسنة القادمة. والإنسان يبلغ في هذه الفترة التدريبيّة درجة كاملة في الأيّام العشرة الأخيرة، عند نهاية شهر رمضان؛ ولذلك، فهناك كثير من الروايات تؤكّد أنّ ليلة القدر هي إحدى الليالي العشرة الأخيرة من الشهر. وفي بعض الروايات، أنّ لكلّ إنسان ليلة قدر تختلف عن ليلة إنسان آخر.
•الدعاء والصوم
ثمّة معنًى آخر يرتبط بمفهوم الدعاء. فإذا لاحظنا آيات الصيام في شهر رمضان نجد أنّ القرآن الكريم يجعل آية الدعاء ضمن آيات الصيام: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186). هذه الآية في وسط آيات الصيام، تظهر علاقة واضحة بين الدعاء واستجابته، وبين الصيام.
ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي يرى رؤية أوضح، ويشعر ويتحسّس أكثر، وبالتالي يتنوّر عقله وقلبه بنور الإيمان، فهو أقرب إلى الله، ودعاؤه مستجاب. ولا شكّ في أنّ للدعاء تأثيراً كبيراً في تقرير مصير الإنسان.
فشهر رمضان –إذاً- هو فترة لاستجابة الدعاء؛ أي الدعاء النابع من حالة صفاء القلب، وابتعاد الإنسان عن الأحقاد، وكذلك رؤيته، وتحسّسه، وصبره. كما أنّ وصول الإنسان إلى درجة عالية من مقام استجابة دعائه، يكون عادةً في العشرة الأخيرة، حيث مرّت عليه فترة طويلة من الصيام.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج10، ص208-210-بتصرّف.