الشيخ علي رضا بناهيان
تعرّضنا في العددين السابقين لعنصرين من عناصر الانتظار، هما: الاعتراض على الوضع الراهن، ومعرفة الوضع المنشود. والآن، سنتعرّض إلى ما تبقّى من هذه العناصر، وهي ثلاثة: الاعتقاد بتحقّق الوضع المنشود، والشوق إليه، والعمل على تحقّقه.
* الاعتقاد بتحقّق الوضع المنشود
العنصر الثالث هو الاعتقاد الذي ينبثق معه الأمل؛ فلو لم نكن معتقدين بإمكانية تحقّق الدين كلّه في يوم من الأيّام، لوقع الدين بأسره عرضة للتشكيك. فلو قمنا بإثبات أصول الدين، وتعرّضنا بعد ذلك لبيان الأحكام الإسلاميّة، ولكنّنا غير معتقدين بالمجتمع المهدويّ، لا يمكننا عندئذ الدفاع عن أحقيّة الدين بشكل جيد، لماذا؟ لأنّه سيُقال لنا: هذا الدين الّذي تدّعون أنَّه أكمل دين، لم يستقرّ بالكامل في عهد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان قد استقرّ بالكامل، لتحقّق وعد الله في قوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَی الدِّينِ کُلِّهِ﴾ (التوبة: 33)، ولكان انتشر دين الإسلام في جميع أقطار العالم.
وقد أشار الإمام الخميني قدس سره إلى هذه المسألة قائلاً: "إنّ الله تبارك وتعالى قد ادّخر المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف للبشرية من أجل تحقيق العدالة بمعناها الحقيقيّ في أرجاء المعمورة. فقد جاء الأنبياء من أجل تطبيق العدالة، ولكن ذلك لم يتحقق؛ لعدم توافر الإمكانيّة لأيّ أحد من الأوّلين والآخرين، فيما توافرت للمهديّ الموعود فقط إمكانيّة نشرها".
* إشکالان في طريق تحقّق الوضع المنشود:
- الإشکال الأول: لقد كانت سيرة أولياء الله في التعامل مع النفاق، هي عدم إفشاء سرّ المنافق وفضحه، إلى جانب الحفاظ على كرامة الإنسان. فلو أنَّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف سينتهج نهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حكومته، فهل هو أمرٌ قابلٌ للتحقّق؟ وهل ستدوم حكومته؟
الجواب هو: أنَّ "الالتزام برعاية الكرامة الإنسانيّة"، كان وسيكون واحداً من خصائص الأئمّة المعصومين عليهم السلام، غير أنَّ افتضاح النفاق وذلّته، سيتحقّقان إثر أدلّة أخرى؛ فبصيرة الناس من جانب، وكثرة الخواصّ الصالحين من جانب آخر، مضافاً إلى شدّة الإمام في التعامل مع الخواصّ الصالحين المحيطين به، والّذين هم من ولاته، توجب ذلّة المنافقين وافتضاحهم.
- الإشکال الثاني: إنّ التجربة التاريخيّة لحياة البشر تكشف عن أنّ أكثر الناس لا يخضعون للأوامر الإلهيّة، فكيف سيتّبعون الحقّ بعد ظهور الإمام بصورة شاملة وثابتة؟
يكمن الجواب عن هذا السؤال في سرّ حاكميّة الحقّ، والولاية الإلهيّة المطلقة، وهو أنّ المكر والجَور سينقضي أمدهما في ظلّ هذه الحكومة. كما وأنّ انقضاء فترة الطغيان، وتحرّر الناس من أسر الطواغيت، يوجبان تعبيد الطريق لهدايتهم. وفي مثل هذه الأوضاع، سيتقبّل أكثر الناس الحقّ عقلاً وقلباً.
* نتائج الاعتقاد بالوضع المنشود
للاعتقاد بتحقّق الوضع المنشود نتائج كثيرة على الناس، فهو:
أ- يبعث على السعادة والاندفاع.
ب- يجذب للمعتقدات الدينيّة، ويعزّز الدوافع نحوها.
ج- يزيل ضعف الإيمان.
د- يستنزف طاقة الأعداء والمنافقين، ويقمعهم، ويغلّ يد الشيطان، كما في شهر رمضان المبارك.
هـ- يبعث على الأمل، الذي هو من أهمّ سمات الإيمان. ولو كان الأمل مسبوقاً بعقيدة عرفانيّة، فسيكون قويّاً راسخاً.
و- يُشعر بقرب الفرج والظهور، وهو من صفات المنتظرين. فعن قال الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في دعاء العهد: "اللَّهُمَّ اکْشِفْ هَذِهِ الْغُمَّةَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحُضُورِهِ، وَعَجِّلْ لَنَا ظُهُورَهُ، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً"(1).
* الشوق إلى الوضع المنشود
وهو العنصر الرابع، حيث إذا اقترنت العقيدة بالميل والرغبة، فإنّها ستبعث على الحياة، كالدم الذي يجري من القلب في جميع العروق. وإنّ واحدة من طرق إثبات عقيدةٍ ما في قلب الإنسان؛ هي المحبّة. والشوق ثمرة المحبّة، وكلاهما من ثمرات الإيمان، ولهما في منظومة الحقائق المعنويّة مكانة قيّمة؛ فالإمام الرضا عليه السلام يقول: "مَنْ ذَکَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْتَقْ إِلَی لِقَائِهِ فَقَدِ اسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ"(2).
فإنَّ الشوق الساري في دعاء الندبة مثلاً، قد بلغ الذروة، ففيه نشهد صراخ المنتظر النابع من شوق وتَوق، وهو يتمنّى نجاة أهل العالم. وإنَّ للشوق إلى الفرج شرطَيْن أساسيَّيْن: "محبّة الحقّ"، و"محبّة الخلق".
1- محبّة الحقّ: إنّ من يحبّ الله والحقّ، يحبّ أن يكون الله معروفاً لدى الجميع، وأن يكون الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف معروفاً لدى الجميع أيضاً. وقد يتبلور هذا العشق والحبّ للحقّ بصورة الانتقام من الظالمين، واجتثاث معسكر الباطل، كما نقرأ في دعاء الندبة: "أَيْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ الْمَقْتُولِ بِکَرْبَلاءَ؟"(3).
2- محبّة الخلق: المنتظر لا يُفكّر في الوصول وحيداً، ولا يستطيع أن يدع الناس في ورطة الباطل، بل يرغب في هدايتهم. وكلّما اشتدّت محبّة الإنسان لله، سيشتدّ عطفه وحنانه على الناس شيئاً فشيئاً، بالتالي، سيهتم بمصيرهم لأنّهم عباد الله وأحبّاؤه. وهذا الجزء من دعاء العهد خير دليل على ذلك: "اللَّهُمَّ بَلِّغْ مَوْلَانَا الْإِمَامَ الْهَادِيَ الْمَهْدِيَّ، الْقَائِمَ بِأَمْرِكَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَی آبَائِهِ الطَّاهِرِينَ، عَنْ جميعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا..."(4).
* العلاقة بين الذكر والشوق
إنّ تنمية الشوق إلى الظهور تتأتّى عبر اكتساب التقوى، وأداء العبادات، والعمل بالأوامر الإلهيّة. ولو أردنا أن نعمل عملاً خاصّاً، فعلينا التوجّه إلى "الذّكر". ومن هنا، ينبغي الاهتمام بـ"دعاء الندبة" و"دعاء العهد"، و"الدعاء لسلامته عجل الله تعالى فرجه الشريف " وسائر الأدعية. فعن الإمام الحسن العسكري عليه السلام حول دور وأثر "الدعاء في تعجيل فرج ولده عجل الله تعالى فرجه الشريف " وفي نجاة الإنسان: "وَاللَّهِ لَيَغِيبَنَّ غَيْبَةً لَا يَنْجُو فِيهَا مِنَ التَّهْلُكَةِ إِلَّا مَنْ يُثْبِتُهُ اللَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ، وَوَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ فَرَجِهِ"(5).
* العمل على تحقّق الوضع المنشود
وهو العنصر الخامس، فإنّ العمل لتحقّق الوضع المنشود (التمهيد للظهور، وتهيئة أرضيّة الفرج) يقوّي دعائم الانتظار في الإنسان. وكذلك هو دليلٌ على صدق ادّعاء الانتظار، وسبب لتعزيزه. وممّا لا شك فيه، أنَّ محبّة الإمام ستُظهر آثارها العميقة في سلوك المجتمع ورؤيته، وستُحدث بعض التغييرات فيه. فضلاً عن أنَّ العمل بمقتضى المحبّة، وانتظار الفرج، يؤدّيان إلى إرساء قواعد الانتظار، والحدّ من طول فترة الغيبة. وهنا، ينبغي أن لا ننتظر حتّى يطفح كيل معرفتنا ومحبّتنا القلبيّة، ثمّ نصل بشكل طبيعي إلى العمل، بل يجب تركيز أهميّة العمل ليكون سبباً في إنعاش الشعور الباطنيّ وازدهاره، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَيُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَل"(6).
* تأثير عملنا
إنّ الذين لا يرغبون في العمل من أجل التمهيد للظهور لأيّ دليل، يعتبرون الفرج أمراً خارجاً عن نطاق البشريّة، في حين أنّه لا يرتبط بمعرفة البشر، وشعور المنتظرين فحسب، بل له ارتباط تامّ بعملهم أيضاً. وأمّا الدليل على أنَّ عملنا يؤثّر في مصيرنا فهو سنّة إلهيّة؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّی يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11). ومن جانب آخر، سنجد أنّ الفتح، والظفر، والنصر الإلهيّ أمورٌ منوطة على الدوام بنصرٍ من قبل العباد: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْکُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾ (محمد: 7). وبطبيعة الحال، إذا بادرنا إلى العمل سنحقق شرائط جديدة في العالم، تتطلّب نصرة الله وفق السنن الإلهيّة. ونصرة الله لا تتجلّى في إطار هذا العالم إلّا بظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
يقول الإمام الخميني قدس سره عن تأثير عملنا في تعجيل الفرج: "نحن مكلّفون! وانتظارنا للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف لا يعني أن نجلس في بيوتنا ونأخذ السبحة بأيدينا ونقول: "عَجِّل فرجه". التعجيل لا يتحقّق إلّا بعملكم. أنتم يجب عليكم تهيئة الأرضيّة لمجيئه"(7).
1- مفاتيح الجنان، دعاء العهد. وأيضاً: المصباح للكفعمي، ص550.
2- مجموعة ورام، ج2، ص110. وأيضاً کنز الفوائد، ج1، ص330، مع اختلاف بسيط حيث جاء في المصدر الثاني: "وَلَمْ يسْتَبِقْ" بدلاً من "وَلَمْ يشْتَقْ".
3- مفاتيح الجنان، دعاء الندبة. وأيضاً إقبال الأعمال للسيد بن طاووس، ص297.
4- دعاء مروي عن الإمام الصادق عليه السلام: مفاتيح الجنان، دعاء العهد. وكذلك المصباح للكفعمي، ص550.
5- کمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص384.
6- نهج البلاغة، الحكمة 150.
7- صحيفة الإمام، ج18، ص220.