﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾
(النور:37).
صدق الله العلي العظيم
اسم الأم : مريم دلباني
محل وتاريخ الولادة: البازورية 12-06-1981
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 254
محل وتاريخ الاستشهاد: البازورية 20-07-2006
مع نسائم العمر يتهادى طيفه والذكريات، يحركُ أفنان
القلوب فترتجف الدمعات تهوي فوق الكلمات. أي وجهٍ غابَ عن الدروب التي كان إذا ما
مشاها رافقته العيون والدعوات؟ أي قمر غار خلف نجوم الغياب، والشباب في أوله؟!
والمشتاقون يتسابقون إلى هناكَ، حيث تعرّشت روضة من رياض الجنة في مدفن البازورية،
وكلٌّ يود أن يقطف طيباً من العبق الذي يملأ أرجاء المكان.. في الخامس عشر من شهر
شعبان المبارك، وُلد هادي الذي أبى طوال عمره إلا أن يكون هادياً لمن حوله بكل
سكناته، فكأنه أبصر آخر الطريق، فيما هو في أوله.
* وعي وشجاعة مبكران:
كان هادي طفلاً هادئاً يراقب بعينيه الصغيرتين ما يجول حوله، فيقلد ما يفعله الكبار،
ليس لمجرد التقليد بقدر ما هي رغبة التعلّم والاكتشاف والتجربة. ففي عمر السنة ونصف،
عاد والداه من سهرةٍ قصيرة عند الجيران فوجدا طفلهما الصغير قد قام من نومه ووضع
بعض ثيابه في حلّة صغيرة ليغسلها كما تفعل أمه، وعاد إلى النوم. وبعدما عايش أصوات
القذائف في الحرب الأهلية، كان كلما سمع صوتاً قوياً يهرع ليختبئ في مكانٍ آمن
مثلما يختبئ الجميعُ خلال القصف. وفي أحد الأيام، وبينما كانت أمه في السوق وهو
وإخوته في المنزل، طَرق بابهم متسولٌ. سارع هادي إلى إعطائه مبلغ ثلاثة آلاف ليرة،
وكان لهذا المبلغ قيمة آنذاك، فعاتبته أمه على قيمة المبلغ، خصوصاً وأن بعض
المتسولين يمتهنون التسول، ولا يطرقون الأبواب من الحاجة، ولكن هادي برر ما قام به،
بأن الرجل فطر قلبه!
رسم هادي بسهولة الصورة المثالية للابن الذي يتمناهُ كل
أهل، ولكنه لم يكتفِ بأنْ يكون ابناً لوالديه، بل انتقى إلى جانبهم أهلاً ورفقاء
درب اختارهم منذ نعومة أظفاره، وسلكَ نهجاً واضح المعالم في ناظريه ولم يخطر في
باله لحظةً أن يحيد عنه، أو أن يتستر عليه في وقتٍ كانت المقاومة فيه خياراً ملاحقاً
من عدة أطراف. فمرة كان في مخيم على ضفة نهرٍ مع كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه،
فطلب القائد من الفتية أن يخلعوا الشارة التي تدل عليهم اتقاءً للمساءلة، ففعل
الجميع ما عدا هادي الذي أصر على أن يبرز انتماءه، وقد أكبر فيه الجميع هذا الموقف
الشجاع، ذلك أنه اعتبر أنْ لا شيء في الدنيا يفرضُ عليه أن يخبئ انتماءه.
* نشاط لا يملّ:
في قريته البازورية التي قضى عمره فيها، ملأ هادي زواياها وشوارعها صخباً من نوعٍ
آخر، فهي لا تحمله أرضاً ولا تسعه سماءً، وكأنه يسابق الزمان، فقلّب أيام حياته
بنشاطٍ مفرطٍ وحيوية لا مثيل لها، فتنقل بين المدرسة والمعهد والحضور في المسجد
والالتقاء بالأصدقاء والالتحاق بالدورات العسكرية. بعد أن أنهى دراسته في
معهد جويا الجامعي في منطقة صور، التحق هادي بالجامعة اللبنانية في بيروت لمتابعة
اختصاصه في هندسة الكومبيوتر، فانتقل للسكن هناك، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، فقد
التحق رسمياً بصفوف المقاومة وصار يذهب إلى دوام عمله بعد دوام الجامعة مباشرة. ولم
يلاحظ عليه أحد في يومٍ من الأيام تعباً أو تذمراً، أو رآه قد اختصر حياته بين
الدراسة والعمل. فهو أجاد تنظيم وقته وتقسيمه، فتارة يذهب إلى النادي ليتدرب، وأخرى
يرافق رفاقه للعب كرة القدم، واستغل أيام العطل للالتحاق بالدورات العسكرية
والمهمات الجهادية.
كان هادي شاباً مرحاً جداً وحيياً في الآن ذاته، يعرف جيداً
حدوده، ويجيد إقامة العلاقات المتينة مع من حوله، فتراه بين المجاهدين أخاً ودوداً
وخادماً مخلصاً، يضع كل ما يتعلمه في خدمة العمل، وقد ساهم في تنفيذ بعض الأعمال
المميزة والهامة، وكان مع الناس ابناً وأخاً وصديقاً وفياً، فهو كان شخصاً اجتماعياً
من الدرجة الأولى، وأينما وجد ترك أثراً في نفوس الناس الذين رأوا فيه شيئاً يعجزون
عن تفسيره. بدأ هادي يتحضّر لعقد قرانه قبل فترة من وقوع حرب تموز 2006، فاشترى شقة
بالتقسيط في بيروت، وجدّ في العمل من أجل تأمين استقراره الاجتماعي، ولكن تموز حمل
معه بشرى تحقيق حلمه الذي تمسّك به منذ فتوته.
قبيل استشهاده بأيام، جلب هادي إلى
منزل ذويه قجة لجنة إمداد الإمام الخميني قدس سره وطلب إلى أهله المواظبة على وضع
الصدقات فيها. ونهار الأربعاء بتاريخ 12 تموز، وصل هادي إلى بيروت بعد أن ودّع
أمه التي ظلّ ليومين متتالين ملاصقاً لها في البيت على غير عادته، وكلما ابتعدت عنه
طلب إليها البقاء بالقرب منه والسهر معه، وبمجرد سماعه لخبر عملية الأسر عاد أدراجه
مباشرة إلى الجنوب ليلتحق بالجبهة الأمامية من دون أن يعلم أهله.
* تحقق الحلم الفتيّ:
مشى هادي ثابت القدمين في طريقه، وصدى صوته يعيد في نفسه ما قاله ذات يومٍ لوالده:
"أنتَ ربيتني على هذا الخط والنهج، فأرجو منك أن تبقى على هذا الخط". كانت الشجاعة
تبرقُ في عينيه حينما التقى بمجموعة من المجاهدين، فناداه أحدهم من بعيد: "السلام
عليكم يا مقاومة"، فلوح هادي لهم متبسماً وردّ: "أنا لا دخل لي بالمقاومة، أنتم
المقاومة". وصل هادي إلى حيث شارك بإطلاق صواريخ المقاومة على المستعمرات الصهيونية.
كان هادي مع الشهيد جعفر جعفر وحدهما في نقطة محددة، وكلما طلب إليهما مسؤولهما أن
يرسل إليهما مجاهدين لمساعدتهما، رفضا قائلَيْن له إنّ "أبا ذر الغفاري" و"سلمان
الفارسي" والعديد من الأشخاص يساعدونهما في رمي الصواريخ. وفي العشرين من شهر تموز،
وبينما كان هادي وجعفر يدكان المستعمرات الصهيونية بالصواريخ، أغار عليهما الطيران
الحربي، فاستشهد هادي مباشرةً، فيما زحف جعفر ناحيته، وأخذ من جعبة هادي الخنجر
ودفنه تحت رأسه. وبينما هو ممسك بيد صديقه الشهيد ويخبر الإخوة عن شهادة هادي انقطع
الإرسال بسبب غارة جديدة استشهد جعفر على أثرها وبقيت يده في يد رفيقه. بقي جثمان
هادي لغاية العشرين من شهر آب في أرض المعركة تلفحه الشمس اللاهبة، قبل أن يُحمل
على أكف الأهل والرفاق المفجوعين بفقد "المهندس" الذي قدّم كل حياته في طريق
المقاومة ، وبرحيل الجار الذي ترك أيما أثر في نفوس كل من عرفه. وأخيراً، رقد
العريسُ في مثواه الأخير، فقد هدأ حماسه المستعر كالنيران لأنه وصل إلى حيث يريد.