على هوادج العشق تمضي بنا الرواحل نحو نحر الحسين.. وعلى
متن المشاعر الملتهبة والأحاسيس العاصفة، يمضي بنا الحنين إلى الدم الثائر المسفوح
فوق ثرى نينوى.. وفوق قارب الأحزان، تجري بنا نواهل الدموع نحو صريع الدمعة الحرّى
ورمز المصيبة الكبرى.. تتملَّكُك مشاعر الأسى والحزن، ويهيج قلبك اضطراباً بمصاب
الحسين عليه السلام، حتى ليكاد ينفطر.
تُظلم الآفاقُ وتخيّم العتمة ويسود الغمُّ
حتى ليكاد المرء يموت كمداً وحسرةً على الحسين عليه السلام، كلما حضرت في الوجدان
نائبته, وتعترض في الحلق الغصة كلما طرقت الآذان واعيته . لكن، تتملَّكنا مشاعر
الزّهو والفخر أمام كل العالم عندما نقدّم قدوتنا إليه، وتمتلىء قلوبنا بمشاعر
الحماسة حتى نعرّف الآخرين أننا ننتسب إلى الحسين عليه السلام.. نحمل شعارات الحسين
رايةً لا تكلّ قوانا من رفعها، وبيرقاً نحرص أن يظلَّ خفاقاً فوق رايات الخلق،
وعلماً لا نرضى أن يعلوه علم، ونبراساً للحقّ وللعدالة لا نقبل له بديلاً ولا نرتضي
له تحويلاً. لكن أيضاً، تعبر بنا مواكب النور المشعة من نحر الحسين لتملأ قلوبنا
يقيناً، ونفوسنا طمأنينة، لتضيء كل آفاق الوجود وتطرد الظلام من كلِّ زوايا الدنيا..
تعوَّدنا قديماً أن نجلد ذواتنا بحب الحسين، أن نقيم لذكراه المراسم، ولعزائه
المآتم, بل استمالت لتصبغ بالحزن كلّ المواسم.. لكن، في ذكرى أبي الأحرار، تصل
التعبيرات إلى ذروة السنام عن الوصل المبتغى لصاحب الذكرى، فتستمد الأجيال معاني
حضورها من ارتباطها بالطّفِّ، وتستوهب المواكب المتوالية تجلِّيات كرامتها وعزتها
من سيد الشهداء.. في شهر محرم، ما نستحضره هو تلك القيم التي تضجّ بفيضها واقعة
الطفّ.. نستحضر تجلي الإنسانية بأعظم صورها، وتجلي البهيمية والوحشية بأبشع صورها
على أيدي سباعٍ بصورٍ آدمية..
نستحضر المظلومية الواقعة على مجمع الفضائل ووعاء
القيم الإنسانية . نستحضر كذلك، معاني الظلم والبطش والقهر المفتعل, مدفوعاً
بالشَّرَه والطمع، محمولاً على قوائم الحرص والإقبال على الدنيا والسعي إليها ولو
على حساب إراقة أزكى الدماء، وسبي أطهر النساء، تجاوزاً لأوامر الله بحفظ العترة
وهتكاً لشريعة السماء..
أعظم مظاهر الوصل بالحسين عليه السلام والتعبير عن حبه وعشقه والتعلق به، هي فعل
القيام والنهوض لأجل الحق والعدالة.. هي فعل الجهاد والتضحية من أجل حفظ الدين وصون
القيم.. هي فعل الإقدام والثبات على طريق الهدى والصلاح.. هي فعل الثورة وتأجيجها
في سبيل إنصاف العباد، ورفع نير القهر عن الرقاب في أرجاء البلاد.. هي فعل الصدق
والاستقامة، توطين النفس على العطاء بلا حدود، تحقيق معنى الاتصال بأعلى مستوياته
وفي أشد الظروف وأصعبها, وكذلك في أفضلها وأيسرها بالله تعالى، كفعل الحسين وصحبه
ليلة ويوم العاشر من محرم..هي فعل الاستشهاد وبذل النفس وإراقة الدماء في طريق خاصة
الأولياء, من أجل إرغام أنوف الطواغيت وتكريس العزة والعنفوان للإسلام وأهله..
للإنسان الإنسان.. وهذا كله ما عبّرت عنه حقبة الراهن من الأيام، بأيدي الأحرار
الذين تعلّموا معنى الحرية وكيف يصلون إلى الحرية وكيف يحفظون الحرية من أبي
الأحرار... وتعلموا معنى القتال حتى الشهادة.. والطاعة لله بطاعة أوليائه لكسب
الجنة والرضوان.. الفعل الحسيني اليوم هو فعل الجهاد والولاء والشهادة.. والخط
الحسيني اليوم هو خط الولي الحسيني الذي يحقق للأمة عزتها وللمسلمين استقلالهم
وسيادتهم ويوحد كلمتهم.. هكذا نعيش الحياة..