نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: زينب حسن حدرج.
محلّ الولادة وتاريخها: الهرمل 17/03/1988م.
رقم القيد: 276.
الوضع الاجتماعي: متأهّل وله ولدان.
مكان وتاريخ الاستشهاد: الغوطة الشرقية 19/11/2013م.
رنَّ الهاتف رنيناً أوجل القلوب.. تعلّقت الأنظار
بشاشة الهاتف، وانتظرت الأم ردّ فعل ابنها لتقطع الشكّ باليقين، وكانت تلك الشهقةُ
كفيلة بذلك.. كان "عليّ" قد أخبرها أنّها ستعرف باستشهاده قبل الجميع، كما أخبرها
قبل ذهابه أنّها رحلته الأخيرة، وأشياء كثيرة استحضرها القلب بلحظات؛ فما يقوله
يحصل دوماً.. أَوَلم يطلب إليها أن تدعو له أن يعود من سوريا حيّاً في مشواره
السابق؟ يومها أسرّ لها أنّه يريد رؤية ابنه ويحضنه ولو مرّةً واحدة.. وعاد بعد أن
أنجبت زوجته، وكحّل ناظريه برؤية ابنه، وسرعان ما نقش سريعاً موعد الغياب الذي لا
عودة منه...
* كربلاء الغوطة
لم يعرف أحد ماذا حصل في الغوطة الشرقية في ذلك المحرّم، لكنّ عدداً يفوق الخمسة
آلاف تكفيريّ حاصر المجاهدين في بقعة صغيرة، وكان ذلك أشبه بالحلم الذي رآه "عليّ"
أثناء الحصار؛ أفعى سوداء كبيرة التفّت حول المنازل التي حوصروا فيها، ولكنّه
قطّعها.. كانت المعركة كربلائيّةً، فلا ماء ولا طعام، والذخيرة قليلةٌ.. وكان لا بدّ
لـ"عليّ" من أن يتّخذ القرار، فهو قائدُ الهجوم. نظر إلى رفاقه وطلب إليهم أن
يتفرّقوا في سواد الليل تحت الرصاص، فإمّا نجاة وإمّا شهادة؛ أمّا هو فسيقطّعُ
الأفعى ليفتح لهم المنفذ؛ فمنهم من استشهد، ومنهم من نجا، ومنهم من فُقِد أثره،
أمّا هو، فكانت الرصاصاتُ التي استقرّت في جسده آخر من علم بمكانه، منع المسعف من
سحبه طالباً منه الرحيل بسرعة، ابتسامةٌ أخيرة.. وشرب "عليّ" من يد السيّدة الزهراء
عليها السلام شربةً لن يظمأ بعدها أبداً، وبقي جثمانه وحيداً، غريباً..
لم تُفاجأ أمّه بالخبر، فهي قد عرفت منذ زمن طويل أنّ ثمّة شيئاً سيصيب أحد أولادها
الثلاثة، مذ رأتهم في الرؤيا يجلسون متحلّقين حول بعضهم بعضاً، وإذ بأهل الكساء
عليهم السلاميدخلون، ويغطّونهم بدثار، ويُسقى أحد الفتية ماءً، لم تعرف الأم من هو
إلّا بعد سنوات، عندما أخبرها "عليّ" أنّه كان مريضاً ورأى السيدة الزهراء عليها
السلام في منامه قد أشربته ماءً وأبقت على القليل، ولمّا سألها لمن البقية؟ أجابت:
"لك.. لكن لاحقاً".
* المعرفة سبيل العروج
كثيرةٌ هي الأسرار التي اكتنفت حياة "عليّ"، حياةٌ لم تخلُ من المواقف التي كان
يتدبّرها، ويقف عندها مليّاً ليعيدَ حساباته، كقصّة الحادث الذي تعرّض له مع والديه
ونجوا منه بأعجوبة، فكان مفصليّاً في حياته. ولكن، في اللحظة التي فتح فيها عينيه
على الحياة مجدّداً، قرّر "عليّ" أن لا شيء سيقف في طريق عروجه إلى الله..
ساعدت البيئة الملتزمة التي أمّنها الوالدان لأولادهما على تجاوز الكثير من مصاعب
الحياة، وكانت نظرةُ "عليّ" الواعية إلى الأحكام الشرعيّة منطلقاً أساسيّاً في
خياراته؛ إذ لم يغضَّ الطرف عن أيّ تفصيلٍ صغير، أو يترك للجهل بمسألة ما مكاناً
عنده، فالمعرفة أولى خطوات السلوك، فبنى شخصيّةً مثقّفةً متميّزةً، متفانيةً، فمنذ
صغره قام بخدمة والدته ومساعدتها، أمّا أبوه، فلم يكن ليؤخّره هو وإخوته نومٌ عن
مساعدته، فإذا ما جاء في منتصف الليل محمّلاً بالخضار، استيقظوا ونزلوا لمساعدته
حتّى شقشقة الفجر.
* حياة السالكين
عُرف "عليّ" بروحه اللطيفة والمرحة، وحبّه للتفكّر والصمت في كثيرٍ من الأحيان، حيث
كان يهيمُ في البرّيّة وحيداً، ينظمُ في باله الشعر الذي أجاده، وكان يتبارى وأباه
في القصائد، ويقطف لأمّه من خيرات الطبيعة لتطهوه وتأنس به.
كان "عليّ" متفوّقاً في دراسته. وفي الجامعة تسجّل في اختصاص الجغرافيا، الذي
انتقاه بناءً على حاجته العمليّة في المقاومة التي انتسب إليها بُعيد حرب تمّوز
مباشرةً، وقد خضع لدورات عسكريّة متلاحقة، رفعت من جهوزيّته العسكريّة، وأهّلته مع
الوقت لتسلّم مسؤولياتٍ في المقاومة.
بنى "عليّ" حياته على قاعدتين أساسيّتين: "لا تؤجّل عمل اليوم إلى غد"، و"إذا عمل
أحدكم عملاً فليتقنه"، وقد أضفت هاتان القاعدتان على حياته النظام والاستقرار،
وأضافت التميّز إلى عمله، فلم يكن ليؤخّره تعبٌ عن صلة أرحامه، وخصوصاً أنّ المسافة
بين البازورية في الجنوب والهرمل طويلةٌ. أمّا إذا تناهى إليه شكوى من أمّه أو أبيه،
فكان يلبّيهما مباشرة. ولذا، إذا أراد أحد أن يذكر "عليّ"، يذكره بما فعله، فلا قول
عنده بلا فعل. تزوّج "عليّ" ورزق طفلةً أغدق عليها الكثير من الحنان والحبّ، وكأنّه
خلال السنة والنصف التي عاشتها في كنفه، أراد أن يختصر لها كلّ السنوات العجاف
الآتية، أمّا ابنه فقلّما رآه إذ قضى أغلب أيّامه الـ27 التي فصلت بين ولادة ابنه
واستشهاده في المحور.
* نعشٌ حملته الملائكة
كان "عليّ" في المعارك التي شارك فيها طوال فترة الحرب في سوريا مقداماً وشجاعاً،
ولم يؤخّره مرضٌ أو تعب، بل كان يغالب أوجاع ظهره ويلتحق بالجبهة.
تأثّر "عليّ" كثيراً لرحيل الكثير من رفاقه شهداء، وقد شارك في تشييع أغلبهم، ولكنّ
أحداً لم يشارك في تشييع جنازته، فجثمانه المبارك لم يأتِ، لكنّ نعشه قد حملته
الملائكة واستقبلته السيدة الزهراء عليها السلام.