مركز الحرب الناعمة للدراسات
لعلّ التحذير والتنبيه من الحرب الناعمة على مفهوم
الشهادة وقيم الشهداء جاء في أوائل الخطابات التي تطرّق فيها سماحة الأمين العام
لحزب الله السيد حسن نصر الله (حفظه الله) إلى تشخيص مفهوم الحرب الناعمة نفسه،
الذي أشار إليه لأول في مرة في خطابه بمناسبة الذكرى التكريمية للشهداء(1).
* أغلى التضحيات
وفي هذا الخطاب تحدّث سماحته عن قصّة الشهيدَين أحمد عنيسي وابنه علي عنيسي،
اللذَين استشهدا في المعركة نفسها من بطولات التصدّي لعدوان تموز عام 2006م.
وفي القصّة ما يمثّل قمّة التضحية والشهادة والفداء. فالوالد المعروف بيُسر حاله
الاقتصادية كان بإمكانه الاكتفاء بالدعم الماليّ للمقاومة، والاهتمام بمستقبل ابنه
العلميّ، لكنهما اختارا معاً الجهاد بالنفس، أنبل وأشرف وأغلى أنواع التضحية
والشهادة، من خلال الحضور معاً في الجبهة الأصعب، واستشهدا جنباً إلى جنب.
فالوالد الذي حلم قبل ثلاثة أشهر بالملاك جبرائيل يبشّره بأنه وابنه البكر
سيستشهدان، قرّر ألّا ينفصل عنه لكي تحين ساعتهما في اللحظة ذاتها(2).
وفي توضيح علاقة الحرب الناعمة بمحاولة استهداف مفهوم الشهادة وقيم الشهداء، يقول
سماحته: "من يدير الحرب الناعمة ذهب ليبحث عن سرّ القوة لدينا، بعدما عجزوا عن
اجتياح أرضنا، لذلك ذهبوا ليجتاحوا عقولنا وأفكارنا وثقافتنا كي لا يكون عندنا رجال
كعليّ وأحمد عنيسي".
يضيف سماحته: "هناك وسائل إعلام وفضائيات تعمل على مدى 24 ساعة لتشويه قيم المقاومة
والشهادة وكلّ قيمنا، فقط، للقضاء على منظومتنا الفكرية والمقدّسات التي نؤمن بها".
لافتاً إلى أنّنا "نحتاج إلى مقاومة من نوع آخر، مقاومة فكرية ثقافية للحفاظ على
قيمنا وإيماننا؛ لأنّها سبب قوّتنا وانتصارنا"(3).
وسنذكر في ما يلي نموذجين من النصوص الصهيونية والأميركية المصرّحة بهذا الاستهداف
لمفهوم الشهادة وقيم الشهداء:
- معركة هزيمة الوعي!
يقول أحد خبراء الــدراســـــــات الصهيونيــة، الباحث في مركز دراسات الأمــن
الـقومــي الصـهيوني "مـيـخــائيــــل ميلشـتاين": "إنّ تفوّق "إسرائيل" يحتاج إلى
معركة صبورة استنزافية مديدة السنين، لا ترتكز فقط على كسر القوة العسكرية لقوى
المقاومــة، وإنّمــا تسعى أيضاً لتقويــض المراكز التي تتبلور فيها الأفكار،
ومنــها تنغــرس في وعي الجمهور. وفي هذا الإطار، يبرز، على وجه الخصوص، دور أجهزة
الإعلام والتعليم والمراكز الدينية في بيئة المقاومة، ويبدو أنّه فقط بعد أنْ نحدث
التغيير الجوهريّ والطويل الأجل في أنماط عمل هذه المدارس والجامعات ووسائل الإعلام
والمساجد والمؤسّسات الدينيّة يمكن أن نلغي فكرة المقاومة من الوعي أو نهزمه"(4).
يظهر من هذا النصّ أنّ سبب هزيمة حزب الله للصهاينة ودحرهم من لبنان استعصى على
الفهم والتحليل، حتّى وصل الأمر إلى نتيجة تقضي بتغيير مفاهيم البيئة الحاضنة في
سبيل إلغاء فكرة المقاومة وتفريغها من الوعي، وهو ما تمثّل في إلغاء سِيَر الشهداء
وقصصهم من الذاكرة من خلال برامج ثقافية وإعلامية بديلة، ومن خلال العمل على تأمين
بدائل للشباب في بيئة المقاومة لمنعهم من اعتناق مفهوم الشهادة والاقتداء بالشهداء،
وترويج مقولة "ثقافة الموت وثقافة حبّ الحياة"، أو ترويج بعض المنظّمات غير
الحكومية والمموّلة من السفارات الخليجية والغربية لمفاهيم جديدة حول "الجهاد
والشهادة والشهداء" في محاولة لتفريغهما من الداخل، عبر نشر تأويلات تفسيرية لمفهوم
الجهاد والشهادة، لضربهما بطريقة ناعمة وربطهما بـ"الإرهاب والعنف"(5)، فضلاً عن
صناعة داعش لحرف الجهاد والشهادة عن أساسهما الصحيح.
- "كيف تهزم حزب الله؟"
وكذا نموذج مقال "كاتالوغ الخارجية الأميركية 2016م: كيف تهزم حزب الله؟" سلّط
الضوء على هذا المنحى، حيث يشير إلى ضرورة العمل على التركيز الإعلاميّ على نقطة
أساسية في أداء حزب الله من وجهة نظرها التحريضية "إرسال حزب الله فقراء الشيعة فقط
للقتال، وتقصيره في دفع التعويضات لأهالي الشهداء"(6).
وهناك نموذج في الإطار نفسه مقال آخر لمعهد واشنطن تحت عنوان: "ما الذي تكشفه
إحصاءات "قتلى" حزب الله في سوريا؟".
وهناك شاهد ونموذج آخر هو منشورات معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، الذي يُعدّ
واجهة علنية بحثية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، حيث يتمّ التركيز
على تشريح البنية الاجتماعية المنتجة للمقاتلين والعوامل الاجتماعية والثقافية
والاقتصادية التي تولّد قوافل المقاتلين والشهداء، يطلق عليهم المعهد "أموات
وقتلى"، في محاولة لفهم المصادر التي تعطي لحزب الله القوّة والتماسك والصلابة،
ومحاولة اقتراح سياسات لضرب وتجفيف هذه المصادر.
* الشهداء يكشفون الحقيقة
وإنّ قصص الشهداء أمثال الشهيدين أحمد وعليّ عنيسي تظهر مدى تجذّر مفهوم الشهادة في
العقل الجمعيّ للبيئة الحاضنة لحزب الله؛ ما يكذّب وينسف هذه الكتابات الزائفة
والمأجورة. بالإضافة إلى سياسة حزب الله في تكريم الشهداء بشكل علنيّ في مناسباته
اليومية والأسبوعية على مدى العام والأيام، الذي يرى أنّ خطّ الشهادة ديمومته، فلا
يمكن أن يفرّط به ولا بحقوق وقيم وكرامة الشهداء وذويهم. فضلاً عن أنّ حزب الله
يسعى إلى تأمين الخدمات الاجتماعية والرعائية على أنواعها كافّة إلى بيئته الحاضنة،
ويرفع شعار مكافحة الفقر، ويعمل على رفع المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ من خلال
مؤسسة جهاد البناء والبلديات والعديد من المشاريع.
* شهداؤنا سرُّ قوّتنا
في الخلاصة يمكن القول، بصورة لا تقبل الشك، إنّ مفهوم الشهادة "وقيم الشهداء
ووصاياهم وقصصهم وأثرهم الطيب والمبارك من أهمّ أسرار القوة الناعمة لحزب الله"،
وهي معطيات بقيت، رغم محاولات لعقود من البحث، عصيّة على التحليل التقنيّ والطبقيّ
والبحثيّ والاستخباراتيّ الأميركيّ والصهيوني، رغم توفّر البيانات والأرقام، وهي
عدّة الشغل البحثية، أمام الجميع، فحزب الله ينشر وصايا شهدائه وبياناتهم ويفتخر
بهذا النشر ويعتبره من المصادر المهمة لبقائه، وهو ما لن تنفع معه استراتيجيات
الحرب الناعمة، فجذور ذلك تضرب عمقاً في التاريخ إلى مدرسة عاشوراء وملحمة كربلاء
العظيمة.
(1) الحرب الناعمة - استنزاف للعقول وتغيير في الأفكار لضرب المجتمعات، الكاتب
علي مطر، نشرت بتاريخ 26/7/2012م، موقع العهد الإلكتروني.
(2) (م.ن).
(3) (م.ن).
(4) مقالة للباحث الإسرائيلي، في مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، ميخائيل
ميلشتاين، تحت عنوان "صعود تحدّي المقاومة وأثرها على نظرية الأمن القومي
الإسرائيلي"، نشر جريدة السفير اللبنانية، العدد 11495 الصادرة بتاريخ 18/1/2010م.
(5) مؤمنون بلا حدود، الجهاد الشهادية الشهيد، بحث من 104 صفحات.
(6) كاتالوغ الخارجية الأميركية ٢٠١٦م - كيف تهزم حزب الله بـ٣ خطوات، صباح أيوب،
الأخبار، العدد ٢٩٩٠، 22/09/2016م.