إنَّ الحرب النفسيَّة قديمة بقدم الحروب والصراعات في
تاريخ البشرية حيث كان الإنسان يلجأ إلى أساليب الحرب النفسيَّة بفطرته. وقد
تطوَّرت أساليب الحرب النفسيَّة شكلاً ومضموناً ومناهج كما تطوَّرت بقية أشكال
الحروب. فعلى سبيل المثال كان هناك دقُّ الطبول لإرهاب الجيش الآخر وتلاوة الشعر
والشعارات وطريقة إلقاء الخطابات وبثُّ الشائعات التي هي من أهمِّ الأسلحة التي
استخدمت في التاريخ. أما في العصر الحديث فتستخدم وسائل ضخمة ومتنوِّعة جداً، ويأتي
في مقدّمتها كل ما يتَّصل بوسائل الإعلام ووسائل الاتصال الحديث من صحف ومجلات
وانترنت وتلفزيونات ومراكز دراسات ومؤلفين ومحققين... إنَّ الولايات المتَّحدة
الأمريكيَّة صاحبة مشروع الهيمنة على خيراتنا وهي المتولية شنَّ الحرب بكل الوسائل
على المنطقة تمارس أبشع وأعلى وسائل الحرب النفسيَّة ضدَّ جيوشنا والمقاومة
والقيادات وكلّ ما يتَّصل بهذه الأمَّة بصلة وكذلك العدو الصهيوني الذي يُعتبر ثكنة
للمشروع الأمريكي، يشنُّ حرباً متواصلة على مدى الساعات والدقائق بشكل دائم.
* الإخافة وبثّ الرعب في النفوس
يهدف الأمريكي والإسرائيلي من شن الحرب النفسية بالدرجة الأولى إلى إخافتنا
وإرعابنا وملء قلوبنا بالهلع. ومن جملة الوسائل التي يستخدمها العدو تضخيم قدراته
فهو يتحدّث عن سلاحه البري والجويّ وتشكيلاته بهدف الإخافة، وأحياناً يعمدون إلى
تصويرها، ففي بداية حرب تموز أو العدوان على غزة، كانوا يسمحون لوسائل إعلامهم بأن
تصعد إلى متن بارجة حربية رغم أنَّ ذلك خلاف الضوابط الأمنية، لكنه يخدم الهدف.
وأيضاً من جملة الوسائل الإعلان عن التدريبات والمناورات وتقديمها في وسائل الإعلام
للقول إننا أصبحنا جاهزين ونحن نستعد لكم.
* ارتكاب المجازر للضغط على المقاومة
في عام 48 عندما دخلوا إلى فلسطين عمدوا إلى قتل الرجال والأطفال وبقر بطون الحوامل،
وهذا ليس تعبيراً عن وحشيتهم فقط بل هذا هدفه إرهاب وإرعاب بقية السكان والبلدات
وكان ذلك من أهم الوسائل التي خدمت تهجير الفلسطينيين عام 48... أيضاً عندما ارتكب
الإسرائيلي المجازر في حولا وقانا أو بقية البلدات والمدن كان هدفه الضغط نفسياً
على المقاومة والشعب والدولة. ومن جملة الوسائل المتَّبعة التدمير الهائل. في مدينة
بنت جبيل قصفوا مراكز لحزب الله ولكن لماذا تدمير المدينة كلها؟ في الضاحية تمَّ
قصف أهداف لحزب الله لكن أغلب البنايات التي دمِّرت لم يكن فيها شيء، ويظهرون تدمير
الأبنية في القنوات التلفزيونية لكي يدفعونا للاستسلام نتيجة هذه الهزائم وللتأثير
على المعنويات. من ضمن أساليب الإخافة الاستفادة من الأصوات المحلية والإقليمية
التي تصنِّف نفسها صديقة أو حريصة أو عربية، بعضها يكون من العملاء. وهناك أصوات
أخرى قد تكون عميلة أو لا تكون ولكن يأتي هؤلاء ليكملوا آلة العدو بالقتل والتدمير
ويقولوا إنّ الإسرائيلي سوف يقتل ويدمر ويشيعوا مناخات الرعب والإخافة.
* نموذج من التاريخ
تاريخياً عبيد الله بن زياد كان من كبار الخبراء بالحرب النفسية وكان يوصف بالدهاء.
عندما أتى إلى الكوفة التي كانت تقريباً في يد مسلم بن عقيل وكان والي يزيد النعمان
ضعيفاً ومهادناً، وأهل الكوفة بايعوا الحسين عليه السلام من خلال مسلم بن عقيل
وينتظرون اللحظة التي يأمرهم فيها بالسيطرة على القصر الذي فيه النعمان، عمل عبيد
الله بن زياد بالحرب النفسية لكي يغيّر مجرى الحرب، فعندما وصل الكوفة وصلها دون
جيش مع عشرات المقاتلين، ويومها كانت الأزياء تميّز أهل البيت والإمام الحسين عليهم
السلام، فهو لبس زيّاً مشابهاً لزي الحسين عليه السلام وألبس مرافقيه ودخل الكوفة
فظن أهل الكوفة أنّ الحسين عليه السلام وصل وقاموا باستقباله وقد كان عبيد الله بن
زياد ملثماً ووصل للقصر ودخله. ثم أتى بالنخب والخواص من أهل الكوفة، وقال لهم إنّ
جيشاً قوامه ما يزيد عن مئة ألف آتٍ من الشام وسيصل خلال أيام. هدّدهم مباشرة
وتوَّعدهم بالجيش المقبل، فخرجوا من عنده منهم يقول ما لنا والدخول بين السلاطين
ومنهم من يثبط عن القتال، إلى أن انتهى الأمر بمسلم بن عقيل وحيداً في الكوفة.
انهارت جبهة الكوفة والجيش لم يأتِ بل تحولت الكوفة إلى الجيش الذي صنع المأساة في
كربلاء. والذي ساعد على الحرب النفسية هو ضعف النفوس والجبن والتعلق بالدنيا ولذلك
قال الحسين عليه السلام:
"الناس عبيد الدنيا". هناك أسباب جعلت الجبهة تنهار لكن
الحرب النفسية هي السبب المباشر في انهيارها.
* إقناعنا بأننا شعوب قاصرة وضعيفة
إنَّ الهدف المباشر الثاني إقناعنا بأنَّنا ضعاف، حتَّى لو لم نخف يجري العمل على
إقناعنا بأنَّنا ضعاف لا نستطيع فعل شيء، وأنّه ليس لنا خيارات سوى الخضوع واللجوء
إلى الأقوياء والقبول بإرادتهم وعدم المعاندة لأنّه لا أفق لدينا. يعملون على إغفال
كلِّ نقاط القوَّة عندنا لكي ننساها علماً أنّ في أمّتنا ومنطقتنا -رغم كل المصائب
ونقاط الضعف- الكثير من نقاط القوَّة التي إن جمعناها وعزَّزناها يمكن لنا المواجهة
وإسقاط المشاريع المعادية. لدينا العدد والكم والنوع والعقول والنوابغ والقدرات
الطبيعية والجانب الروحي والمعنوي والإرث الثقافي والتاريخ الحضاري التي هي من
عناصر القوّة، يريدوننا أن ننسى ذلك. هم يعملون لكي نضعف، ويضخِّمون نقاط الضعف
وأحياناً يكذبون علينا ويخترعون نقاط ضعف أو يأتون لنقاط ضعف حقيقية ويسلِّطون
عليها الضوء إلى حدّ أنّ الناظر للفضائيات أو السامع لأحد النخب يُحبَط. وهنا وسائل
الإعلام والنخب السياسية والثقافية تلعب دوراً كبيراً، وعلى سبيل المثال الإضاءة
على الاختلافات العرقيّة والدينيّة والثقافيّة وهي قديمة عمرها مئات السنين
وبإمكاننا تجاوزها لكون مصيرنا واحداً وأهدافنا مشتركة وبمقدورنا تجاوزها لما هو
أكبر ولكن يركِّزون عليها. وأحياناً يعطون الصراع السياسي طابعاً مذهبياً أو طائفياً
أو عرقياً لتتَّسع دائرته. ومن العناوين الأخرى محاولة إقناعنا بأنَّنا شعوب قاصرة
ومتخلِّفة وجاهلة ولا نقدر على حلِّ مشاكلنا الثقافية والسياسية وغيرها، وتأتي بعض
النخب السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية لتنخرط في هذه الحرب على الأمة،
لكن واقعنا غير ذلك. وجزء كبير منه تضليل وكذب. ويلجأ القائمون على هذه الحرب
النفسية إلى فلسفة الضعف وجعلها إستراتيجية، مثلاً: نظريَّة قوَّة لبنان في ضعفه،
وهذا خلاف الطبيعة والسنن الطبيعية وخلاف كل ما هو موجود في هذا الكون، أصبح هذا
الشعار نظريَّة وتُكتب عنه كتب، ولكن هذه النظرية تهاوت وسقطت. في بدايات عام 82
كان هناك شعار أنَّ العين لا تقاوم المخرز وهذا تضليل فمن قال إنَّ لبنان هو عين؟
كلا نحن جبال شامخة تتكسَّر عليها كلُّ الجيوش القوية وليس المخارز والسيوف،
أتوا وقالوا إنّ المقاومين مجانين وهواة ومغامرون وتساءلوا نحن في لبنان سنهزم
إسرائيل؟ فلنعمل من أجل إستراتيجية عربية موحدة. لو انتظرنا إستراتيجية عربية موحدة
لتحرير لبنان لأكملت إسرائيل إلى الشمال والبقاع وأدخلت لبنان في هيمنتها. خلاصة
هذه النقطة أنّهم يأتون للضعف ويعملون له نظرية مثل نظرية السلام في المنطقة.
* إيجاد الشك من الحرب النفسية
الحرب النفسية تهدف إلى إيجاد الشك والتردد والارتباك لدى الجبهة المقابلة. إذا لم
نخف ولم نقنع بضعفنا فيكملون ذلك بإيجاد الشك والترديد على ثلاثة مستويات، المستوى
الأول الشك في أفكارنا وتصوراتنا، المستوى الثاني إدخال الشك إلى خياراتنا أنّ هذه
الخيارات هل هي مجدية أم لا؟ المستوى الثالث إيجاد الشك في حركات المقاومة،
قياداتها وتنظيمها وكواردها. في الأفكار والمباني يأتون للقول لماذا أنتم صامدون هل
لأنَّ لديكم إيماناً بالنصرة والعون الإلهي؟ فيأتون لإدخال الشك في هذا المعتقد عبر
أناس ومثقفين يناقشون هذا الأمر، أو مثلاً نقطة قوة المجاهدين أنهم يقاتلون وفق
التكليف الشرعي وليس فقط من أجل عزة الدنيا بل من أجل مقام الشهداء وما أُعدَّ لهم،
فيشكّون بالجنة ومقام الشهداء ويسخفّون عبر الكاريكاتور والفيلم والحديث الأكاديمي؛
وهدف ذلك ضرب البنية الفكرية. يقابلون الحديث عن تحمّل المسؤوليات بدعوة الشباب
للذهاب للرقص والشرب. يعملون على كلِّ مفردة بذاتها وفي نهاية المطاف كل عناصر
القوة التي تحرر البلد وترفع رأسه بين رؤوس العالم تصبح ثقافة موت والضعف و"شم
الهوا" يصبح ثقافة حياة. أيضاً يتساءلون ما جدوى المقاومة والاحتفاظ بسلاحها، هل
ذلك يخدم الهدف؟ لقد خصصوا في السنوات الأخيرة حديثاً يومياً عن سلاح المقاومة،
هناك جزء واقعاً هو مرتزق ومدفوع له للحديث عن سلاح المقاومة وعندما يتوقَّف عن
الحديث عن سلاح المقاومة يتوقف تدفق الأموال إليه. نحن اليوم وصلنا إلى أنّ
المقاومة تمتلك قدرة الدفاع وإلحاق الأذى بالعدو وإفشاله وإيجاد التوازن معه. أيضاً
في الخيارات يقول لك هل أنت إسلامي أم وطني أم قومي؟ نحن كل ذلك ولا تنافي بذلك
فيقول لك كلا عليك حسم خيارك. هم يريدون أن يخرجونا من طبيعتنا وفطرتنا وانتمائنا
العقائدي والفكري وإلاّ لا نكون لبنانيين أو وطنيين، ولكن من يحق له أن يعطي شهادة
بالوطنية؟ المستوى الأخير هو التشكيك في مصداقية القيادات والكادرات، يقولون: إنّ
كلَّ القيادات التي تؤمنون بها هي غير صادقة وهي فاسدة وتبحث عن شهواتها. ومن جملة
الأساليب أيضاً نشر الأكاذيب بالقول إنه يوجد صراع أجنحة وتيارات، يبثُّون مجموعة
أكاذيب لإبعاد الناس عن قيادات المقاومة بحجَّة أنَّ الناس مع المقاومة ولكن لا
يوجد لها قيادة.
اليوم الحرب النفسية تحسم المعركة وهي من أخطر وسائل الحرب التي
تشن على أجيالنا, نحن وبحمد الله دخلنا في مرحلة لن يكون لأصحاب المشروع الآخر
أيّاً تكن الحروب التي يشنونها عسكرية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية أو نفسية سوى
الفشل وخيبات الأمل.