آية الله مظاهري
قبل أن ندخل في البحث الأساسي علينا أن نعرف أن الجهاد هو مدرسةٌ حقيقيةٌ، بل قد لا توجد مدرسةٌ أفضل منه لبناء الإنسان وتربيته.
﴿وما كانَ المؤمنونَ لينفروا كافّةً فلولا نفرَ منْ كلَّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدينِ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون﴾1.
هناك تفسير آخر قد يكون أفضل، يفسر الآية على النحو التالي: إن على المجاهد في سبيل الله أن يتوجه إلى الجهاد لأنه مدرسةٌ حقيقةٌ يرى فيها آياتِ الله ويكتسب فيها صفات الكمال، ثم يعودُ إلى قومه فيعلم الذين لم يشهدوا الجهاد ويدعوهم إلى الحق، ويخوّفهم الله تعالى ويدعوهم إلى التقوى.
وبناء على هذا، يجب أن يصبح الأشخاص الذين ذهبوا إلى الجبهة معلّمين ومربين لأولئك الذين لم يذهبوا إليها، وهذا ما يجب أن يكون حقاً.
* "المواجهة مدرسة صنع الإنسان"
حقيقةَ حالِ الذين يذهبون إلى الجبهة هي أنهم يقومون هناك في آنٍ واحدٍ بتأدية جهادين مقدّسين، أحدهما الجهاد الأكبر، والآخر هو الجهاد الأصغر، أحدهما دحر العدو وهزيمته ودفع شرّه، والآخر بناء الذات واكتساب الفضائل والأخلاق والصفات السامية.
على المجاهد بنفس الصورة التي يتحلى بها بالصبر والصمود والثبات تجاه المصاعب، أن يعمق في نفسه صفات الإيثار والتضحية وينزّه نفسه عن الصفات المذمومة الواحدة تلو الأخرى. وفي الوقت الذي يدحر فيه العدو عليه أن يهزمَ النفس الأمارةَ بالسوء وينتصر عليها، وهو بذلك يعود من الجهاد إنساناً بكل معنى الكلمة ويستحق بجدارة أن يكون معلماً ومربياً للذين لم يذهبوا إلى الجبهة.
وما أتعس الذي يذهب إلى الجهاد ويعود دون أن يحصل فيه أي تغيير إيجابي، أي أنه لم يستفد شيئاً من هذه المدرسة العظيمة، ولم يربّ نفسه فيها ولم يتخلَ عن الصفات المذمومة.
وإذا كانت مدرسةُ السير والسلوك والروحانية تحتاج إلى عشرين أو ثلاثين عاماً لكي تربّي الإنسان ليصبحَ إنساناً حقّاً، فإن مدرسة الجهاد تربي الإنسان في مدة خمس أو ستة أشهر.. وهذا ما كان يحدث في صدر الإسلام الأول، حيث كان الأفراد يتربون في الجبهة في مدةٍ قصيرةٍ جداً. في الصدر الأول للإسلام كان هناك أفرادٌ يفتقدون التخلّق بالأخلاق الإلهية، بل وفيهم الكثير من الصفات المذمومة ولكن ذهابَهم إلى الحرب أحدث فيهم تغييراً عجيباً، بحيث يقف الإنسان منذهلاً.
بعد معركة "أحد" وعنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً مع جمع من أصحابه في صفح الجبل قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من يأتني بخبر عن سعد بن الربيع"، فقام رجلٌ من الأنصار، وذهب إلى مصارع القتلى فوجد سعداً بينهم وبه رمق فجلس عند رأسه ووضع رأسه في حجره ففتح عينه وقال: أهذا رسول الله، ألديك خبرٌ عن الرسول، فقال الرجل: إن الرسول سالمٌ وهو جالس مع الأصحاب على سفح الجبل، فقال سعد وهو يبكي: الحمد لله رب العالمين... فقال الأنصاري: أليس لديك وصية؟ فقال سعد: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنّي السلام وقلْ له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنّا خير ما جرى نبيّاً عن أمّتهِ. وأبلغ قومك - ويقصد الأنصار قومه لأن سعدُ بن الربيع كان منهم أيضاً - عني السلام وقُلْ لهم: إن سعد بن الربيع يقولُ لكم أن لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ومنكم عينٌ تطرف.
وفي معركة أحد أيضا جلبوا إناءً من الماء لعددٍ من المجروحين كانوا يحتضرون فأعطوا الإناء لأحدهم فأبى وقال أعطوه لذاك الأخ الجريح فهو أحوج إليه، فذهبوا إلى الثاني فقال ما قاله الأول، وهكذا حتى وصلوا إلى سابعِ جريحٍ فما أدركوه إذ فاضت روحه إلى بارئها فرجعوا بالماء إلى الجرحى الآخرين فما أدركوهم أيضاً، إذ كانوا قد استشهدوا جميعاً.. نعم الجبهة تصنع هكذا أفراد وتبني هكذا رجال..
الذي يذهب إلى الجبهة ولم يربِّ نفسه فيها بهذه التربية، فلن يكون أجرُهُ، حتى لو استشهد كأجر من ربّى نفسَه وجاهدها في الجبهة، فأحد الشروط المهمة جداً للمجاهد في سبيل الله هو أن يهذّب نفسه ويحلّبها بالأخلاق الفاضلة ويحلّيها من الرذائل والصفات المذمومة.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي المسلمين العائدين من الحرب والقتال بالجهاد الأكبر مرات عديدة، وعندما كان يُسأل عمّا هو الجهاد الأكبر وهل هناك جهادٌ أكبر من الذهاب إلى قلب مواقع أعداء الله ومحاربتهم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب: "نعم جهاد النفس"، ويعني مجاهد النفس وأهوائها..
1 سورة التوبة، الآية 122.