الشيخ تامر محمد حمزة
روي أنّ الإمام الكاظم عليه السلام قال لعليّ بن يقطين: "يا علي، إنّ لله أولياء مع
أولياء الظَلَمة يدفع بهم عن أوليائه"(1)، وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
"من مشى في عَوْنِ أخيه ومنفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل الله"(2). ويُقال إنّ
الخدمة التي تقدّم للناس فإنّها وإنْ كانت بين شخص وآخر إلّا أنّها في الحقيقة هي
معاملة بين صانع المعروف وبين الله سبحانه وتعالى، ويدلّ عليه ما ورد عن الإمام
الصادق عليه السلام: "ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلّا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ
ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة"(3).
* خدمة عباد الله
وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "أوحى الله إلى داوود إنّ العبد من عبادي
ليأتيني بالحسنة فأُبيحه جنّتي، فقال داوود عليه السلام: يا ربّ، وما تلك الحسنة؟
قال: يُدخل على عبدي المؤمن سروراً ولو بتمرة، قال داوود: حقّ لمن عرفك أنْ لا يقطع
رجاءه منك"(4).
من خلال هذه الرؤية الإلهيّة لمكانة خدمة الناس، جرى الأئمة عليهم السلام في سيرتهم
العمليّة على تطبيقها، ومنهم الإمام موسى بن جعفر عليه السلام الذي سخّر كلّ ما
يملك من إمكانيّات لخدمة الناس؛ إمّا مباشرة وإمّا بالواسطة، كعليّ بن يقطين، الذي
بات في بلاط هارون بأمرٍ من الإمام عليه السلام؛ ليكون خادماً للمؤمنين في حفظ
أنفسهم وصيانة أموالهم.
* من هو علي بن يقطين؟
هو أبو الحسن علي بن يقطين بن موسى البغدادي، ولد سنة 124هـ في الكوفة، في نهاية
الحكم الأموي، وقبل ولادة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام بسنة واحدة، ويعدّ من
أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، وأحد أبرز تلامذة وأصحاب الإمام الكاظم عليه
السلام.
تبوّأ في خلافة هارون إحدى أهم الوزارات، وبإمضاء من الإمام الكاظم عليه السلام؛
ليتسنّى له حماية الشيعة والعمل على قضاء حوائجهم، واستمرّ في مهمّته هذه إلى حين
موته عام 182هـ عن عمر يناهز 57 عاماً، وكان قد اكتسب ثقة الخليفة هارون وهو يكتم
حبّه وولاءه للإمام الكاظم عليه السلام.
* تحت عناية الإمام الكاظم عليه السلام
لقد استعمل الإمام الكاظم عليه السلام ولايته التكوينيّة والتشريعيّة لحفظ علي بن
يقطين ولتوجيهه، من أجل أن يكون مرجعاً آمناً للشيعة ومصدراً لنفعهم، ويدلّ على ذلك
أمران:
- الأول: أهدى الخليفة هارون ابنَ يقطين ثياباً، وكان في جملتها درّاعة خزّ
سوداء من لباس الملوك، مُثقلة بالذهب، فأرسلها هو بدوره إلى الإمام الكاظم عليه
السلام ومعها مبلغ من المال، فلمّا وصلت إلى الإمام عليه السلام قبلها عدا الدرّاعة
فردّها على علي بن يقطين مع رسول آخر، وكتب إليه: احتفظ بالدرّاعة ولا تُخرجها من
يدك، فإنّ لها شأناً، فاحتفظ بها من دون معرفة السبب. وبعد أيّام سعى بعض الواشين
إلى الخليفة هارون وأخبره أنّ علي بن يقطين يعتقد بإمامة الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام ويحمل إليه الأموال، وقد أهدى إليه الدرّاعة، فغضب هارون وأحضر علي بن يقطين
وسأله عنها، فأجابه: "هي عندي في سِفط مختوم فيه طيب"، فطلب منه إحضارها حالاً،
فنادى علي بعض غلمانه ووجّهه إلى داره... فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط، ثمّ وضعه
بين يدي الخليفة، فلما فتحه نظر إلى الدرّاعة فسكن غضبه، ثم قال لعلي: "ارددها إلى
مكانها وانصرِف راشداً، فلن أصدّق عليك بعدها ساعياً"، وأمر له بجائزة سنيّة(5).
- الثاني: كتب علي بن يقطين إلى الإمام الكاظم عليه السلام: "إنّ أصحابنا قد
اختلفوا في مسح الرجلين، فإنْ رأيت أنْ تكتب إليّ بخطك ما يكون عملي عليه فعلتُ، إنْ
شاء الله". فكتب عليه السلام إليه: "فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء، والذي
آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلّل شعر
لحيتك، وتمسح رأسك كلّه، وتمسح ظاهر أذنَيك وباطنهما، وتغسل رجلَيك إلى الكعبين
ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره".
فلمّا وصل الكتاب إليه تعجّب بما رسم فيه ممّا أجمعت العصابة على خلافه، ثم قال: "مولاي
أعلم بما قال، وأنا ممتثلٌ أمرَه"، وكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ، وقد سُعي
بعلي بن يقطين إلى هارون، وقيل له: "إنّه رافضيّ مخالفٌ لك".
فقال هارون لبعض خاصّته: "قد كثر عندي القول في علي بن يقطين، والقرَف [التهمة] له
بخلافنا، وميله إلى الرفض ولست أرى في خدمته لي تقصيراً، وقد امتحنته مراراً فما
ظهرت منه على ما يُقرف (يُتّهم) به، وأحبّ أن أستبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك
فيتحرّز منّي".
فقيل له: "إنّ الرافضة تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه، ولا ترى غسل الرجلين،
فامتحنه"، فقال: "أجل، إنّ هذا الوجه يظهر به أمره"، ثم تركه في الدار لوضوئه
وصلاته، فلمّا دخل وقت الصلاة، اختبأ هارون وراء حائط الحجرة، فدعا علي بن يقطين
بالماء للوضوء، ممتثلاً تعاليم الإمام الكاظم عليه السلام، فلمّا رآه هارون وقد فعل
ذلك، لم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه، ثمّ ناداه: "كذب يا علي بن يقطين مَن
زعم أنّك من الرافضة"، وصلحت حاله عنده. ثم ورد عليه كتاب الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام: "ابتداءً من الآن، فتوضّأ كما أمر الله"(6).
* ما خطر في قلبي إلّا عليّ
كانت لعلي بن يقطين مكانة في قلب الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، حتّى إنّه كان
يتذكّره في أشرف المواطن وأعظمها عند الله تعالى.
فعن داوود الرقي قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام يوم عيد الأضحى، فابتدأني
الإمام بالحديث قائلاً: "يا داوود، ما خطر في قلبي وأنا في الموقف (موقف عرفة) إلّا
علي بن يقطين، فإنّه ما زال معي وما فارقني حتّى أفضت".
* اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً
إذا كانت العلاقة مع الله تعالى تقوم على أساس التوحيد، فإنّ العلاقة مع الناس تقوم
على قاعدة السعي في قضاء حوائجهم، ولذا نجد كلّ هذا الاهتمام والتأكيد من الأئمّة
الأطهار عليهم السلام على ذلك، مضافاً إلى سيرتهم العمليّة مع محبّيهم وشيعتهم.
وفي هذا السياق كان التأكيد من الإمام الكاظم عليه السلام لابن يقطين حينما قال له:
"اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثاً، اضمن لي أنْ لا تلقى أحداً من أوليائنا إلّا قضيتَ
حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلّك سقف سجن أبداً، ولا ينالك حدّ سيف أبداً، ولا
يدخل الفقر بيتك أبداً"(7).
* علي بن يقطين وإبراهيم الجمال
عن محمد بن علي الصوفي قال: استأذن إبراهيم الجمّال على ابن يقطين فحجبه، فحجّ علي
بن يقطين في تلك السنة، فاستأذن بالمدينة على مولانا الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام فحجبه، فرآه ثاني يومه، فقال علي بن يقطين: "يا سيدي، ما ذنبي؟"، فقال: "حجبتك
لأنّك حجبت أخاك إبراهيم الجمّال، وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك إبراهيم
الجمّال..."، فقلت: "سيدي ومولاي، مَن لي بإبراهيم الجمال في هذا الوقت وأنا
بالمدينة، وهو في الكوفة؟"، فقال عليه السلام: "إذا كان الليل فامضِ إلى البقيع
وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك، واركب نجيباً هناك مسرجاً"، قال:
فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال في الكوفة.
فقرع الباب وقال: "أنا علي بن يقطين"، فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار: "وما
يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي؟!".
فقال علي بن يقطين: "يا هذا، إنّ أمري عظيم"، وآلى عليه عليّ أن يأذن له، فلمّا دخل
قال: "يا إبراهيم إنّ المولى عليه السلام أبى أن يقبلني أو تغفر لي"، فقال: "يغفر
الله لك".
فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خدّه فامتنع إبراهيم من ذلك فآلى
عليه ثانياً ففعل.
فلم يزل إبراهيم يطأ خده وعلي بن يقطين يقول: "اللهمّ اشهد"، ثم انصرف وركب النجيب
وأناخه في ليلته بباب المولى موسى بن جعفر عليه السلام بالمدينة، فأذن له ودخل عليه
فقبّله(8).
* لم يأذن له الإمام الكاظم عليه السلام بترك السلطة
كتب علي بن يقطين ذات يوم إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ليترك عمل السلطان،
فكتب إليه قائلاً: "إنّ قلبي يضيق ممّا أنا عليه من عمل السلطان، فإنْ أذنت لي"،
فرجع الجواب: "لا آذن لك بالخروج من عملهم واتّقِ الله"(9)؛ وقال عليه السلام: "لا
تفعل، فإنّ لنا بك أُنساً، ولإخوانك بك عزّاً، وعسى أنْ يجبرَ الله بك كسْراً،
ويكسر بكَ نائرَةَ المخالفين عن أوليائه. يا علي كفّارة أعمالكم الإحسانُ إلى
إخوانكم"(10).
ختاماً، تحمّلت هذه الشخصيّة عبئاً ثقيلاً في سبيل تطبيق وصيّة الإمام الكاظم
عليه السلام في خدمة الموالين والحفاظ عليهم. رحم الله المجاهدين.
1- الوافي، الكاشاني، ج17، ص169.
2- الكافي، الكليني، ج2ص195.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص701.
4- الكافي، (م.س)، ص189.
5- الإرشاد، المفيد، ج2، ص226.
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج48، ص38.
7- (م.ن)، ج48، ص163.
8- (م.ن)، ص85.
9- (م.ن)، ج48، ص158.
10- (م.ن)، ص136.