إبراهيم منصور
في سنة سبع للهجرة، بعد فَتْحِ خيبر، كان قدوم جعفر بن
أبي طالب من أرض الحبشة، ومعه أولاده وزوجته وغيرهم من المسلمين المهاجرين ممَّن
كان بأرض الحبشة(1). بلغ جعفر المدينة -وكان النبي صلى الله عليه وآله عائداً من
فتح خيبر- فقبَّل جعفر بين عينيه وهو يقول: "ما أدري بأيِّهما أنا أشدُّ فرحاً:
بفتح خيبر، أم بعودة جعفر". ثمَّ كنَّاه أبا المساكين، لِمَا رآه مِن نفسه الحلوة،
ومن تعاطفه معهم(2).
* جرأة أهل الغدر على المسلمين
بعد عدَّة أشهر من لبثِ الرسول صلى الله عليه وآله في المدينة، بعد ذلك الفتح، امتدَّ
بصرُه إلى شمالي الجزيرة العربية، بلاد الشام، فرآها مُتَّسعاً لدعوته وانطلاقة
مباركة لتحقيق عالمية الإسلام. لذا أخذ صلى الله عليه وآله يُرسلُ الوفود والبُعوث
والرُّسل إلى الملوك والحكام خارج الجزيرة العربيَّة يدعوهم إلى الدخول في الدين
الحنيف. ومن هذه البعوث وفدٌ إلى ذات الطَّلْح، على حدود الشام. وكان عددهم خمسة
عشر رجلاً قُتلوا جميعاً ما عدا رئيسهم الذي أبقى عليه العدوّ، على الأرجح، ليُخبرَ
المسلمين بشدَّة بأسه وقدرته على التنكيل بهم، رفعةً لشأن هِرقل الإمبراطور
البيزنطي. وبهذا يكون العدوّ قد بثّ الرعب في نفوس المسلمين، كما كان يظنُّ
ويتوهَّم. كما أرسل النبي صلى الله عليه وآله الحارث بن عُمير الأزدي رسولاً من
قبله إلى عامل هرقل على بصرى(3)، فقتله شرحبيل بن عمرو الغسّاني، في الطريق، باسم
هِرقْل(4). غضب النبي صلى الله عليه وآله لهاتين الفعلتين الغادرتين، وأشفق من
تجرّؤ أهل الغدر سواء من البيزنطيين أو أعراب الجزيرة، على المسلمين، فأمر صلى الله
عليه وآله بتأديب أولئك المتجرِّئين ثأراً للشهداء المغدورين، ونشراً لدين الله في
رحائب بلاد الله.
* حملة التأديب
جهَّز الرسول صلى الله عليه وآله جيشاً مؤلفاً من ثلاثة آلاف مقاتل يتقدَّمهم
الأمراء الثلاثة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة. كان ذلك في
السنة الثامنة للهجرة (629م). أمَّا حامل لواء الرسول صلى الله عليه وآله في هذا
الجيش فثار حوله خلاف بين الرُّواة. لكنَّ فصل الخطاب، هنا، ما ورد عن أهل البيت
عليهم السلام من أنَّ قائد السريَّة كان جعفر بن أبي طالب؛ فقد جاء في كتاب "الفتح
المبين"(5): "فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنه استعمل عليهم جعفراً، فإن
قُتل فزيد، فإن قُتل فابن رواحة". خرج النبي صلى الله عليه وآله ومعه المسلمون
لتوديع الجيش حتى ظاهر المدينة، وأمرهم بأن يذهبوا حيث قُتل رسوله الحارث بن عمير
الأزدي، فيدْعوا القوم إلى الإسلام فإنْ أجابوا وإلا فالقتال، وأوصاهم: "ألا تغدروا
ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأةً ولا كبيراً ولا فانياً، ولا معتزلاً
بصومعة، ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً". كما دعا صلى الله
عليه وآله ودعا معه المسلمون لهذا الجيش قائلين: صَحِبَكم الله ودفع عنكم وردَّكم
إلينا سالمين(6).
* سير المعركة:
مضى جعفر بجيش المسلمين حتى وصل إلى مدينة "مَعَان"(7)، فأقام بها ليلتين. ويرى
المؤرّخون أنَّ أنباء مسيرة المسلمين قد سبقتهم، فسمعوا، هناك، بأنَّ هرقل قد جمع
لهم مائة ألف مقاتل من الروم، وهو يعسكر بهم في منطقة "مآب" من أرق "البلَّقاء"(8).
كما حشد شُرحبيل بن عمرو الغسَّاني – وهو عامل هرقل على الشام – جيشاً مماثلاً
عداده مائة ألف مقاتل من أعراب لخم وجُزام والقين وبهراء وبليَّ. ويُقال إنَّ
تيودور أخا هرقل هو الذي كان على رأس هذه الجيوش المحتشدة، لا هرقل. فراح المسلمون،
وهم بمعان، يفكرون في أمر هذه الأعداد الكثيفة التي لا قِبَل لهم بها، ولم يُعدُّوا
العُدَّة المناسبة لملاقاة مثلها. فتراجع بعض المسلمين وصمد أكثرهم، وقال بعضهم:
نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فنخبره بعدد عدوِّنا، فإمَّا أن يُمِدَّنا
بالرجال، وإمَّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له. وكاد هذا الرأي يسري بين المسلمين لولا
عبد الله بن رواحة الذي خطب في الجموع فألهب مشاعرهم وشجَّعهم على القتال قائلاً: "يا
قوم، والله إنَّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نُقاتل الناس بعُدد
ولا قوَّة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلقوا،
فإنّما هي إحدى الحسنيين: إمَّا ظهور وإمَّا شهادة". فانطلق المسلمون بحماسةٍ شديدة
ونفس تواقة إلى الاستشهاد، حتى إذا وصلوا إلى تخوم "البلَّقاء" ظهرت لهم جموع الروم
والعرب قرب قرية تدعى "مشارق". فلمَّا تقدَّمت جيوش العدوّ اتجه المسلمون نحو قرية
"مؤتة" إذ فضَّلوها على "مشارق" للتحصُّن بها. وفي "مؤتة" جرت المعركة شديدة
الرَّهَق بين مائتي ألف من جيوش العدوّ وثلاثة آلاف فقط من المسلمين!(9).
* شهادة جعفر بن أبي طالب:
وبإيمانٍ واندفاع قلَّ نظيرُهما حمل جعفر بن أبي طالب راية النبي صلى الله عليه
وآله وهو يتقدَّم نحو الشهادة التي هي هدفه الأسمى، وراح يقاتل والمسلمون معه
بضراوة لا مثيل لها. ويقول المؤرّخون: كان جعفر على فرس له، فلمّا أحاط العدوّ
بفرسه نزل عنه، وتقدَّم بالراية بين الجموع حتى قُطعت يداه، فجعل الراية بين عضديه
وتابع تقدُّمه غير عابئ بما أصابه، فأخذته الرِّماح والسيوف والسهام، ولبث يناضل عن
الراية حتى صُرِعَ كما أحبَّ أن يُصرَع شهيداً(10). وقد وُجِد به اثنتان وسبعون
ضربة وطعنة بالسيوف والرِّماح، كما وُجِدتْ ساريةُ الراية مغروسةً بين عضديْ جثمانه
الطاهر حتى لا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وآله تسقط على الأرض(11). فتناول
الراية زيدُ بن حارثة وقاتل قتال الأبطال المحتسبين حتى قُتِل. فآلت القيادة إلى
عبد الله بن رواحة، فقاتل مقتحماً بالراية جموع القوم حتى استُشهد، والمعركة في
أوْجها. وحتى لا تتفرَّق كلمة المسلمين كان لا بُدَّ من تعيين قائد جديد، فتذكروا
قول النبي صلى الله عليه وآله لهم عند انطلاقهم من المدينة: "... فإن أصيب ابن
رواحة فليرتضِ المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم". وإذا باللواء يأخذه ثابت بن
أفرم من بني العجلان، وينادي في أصحابه: "يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم".
فقالوا: "أنت". قال: "لا، ما أنا بفاعل". فاصطلحوا على خالد بن الوليد، وكان حديث
عهد بالإسلام.
* الانسحاب
وبما أنّ الحروب كرّ وفرّ، وأنَّ تلك المعركة لم تكن متكافئة، فقد آثر خالد عدم
التضحية بجيش المسلمين، فانسحب من المعركة وعاد إلى المدينة مكتفياً باثني عشر
شهيداً بينهم الأمراء الثلاثة جعفر وزيد وعبد الله(12). في المدينة استقبل الناس
الجيش العائد منهزماً بالسخط والغضب، وراحوا يحثُون في وجوههم التراب قائلين: "يا
فُرَّار، فررتم في سبيل الله!". ولكن النبي؛ كان يعرف ما يُنْتَظَرُ من هذا الجيش
من فتوحات مباركة في مُقبل الأيام، كما أراد أن يرفع من معنويَّات رجاله تقديراً
لبلائهم في المعركة، فقال: "ليسوا بفرّار، ولكُنَّهم الكُرّار إن شاء الله"(13).
ذاك هو القائد الحكيم الذي لا يبخس رجاله قدْرهم، ولا يقبل بتحطيم معنويَّاتهم،
وإلا خسِرَهم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله، فكانت العاقبة أنَّ المسلمين
نهضوا بالفتوحات الكبرى، ولم يخسروا معركة، بعدها، بإذن الله. وبعد، لقد بكى النبي
لمقتل جعفر وزيد وبقيَّة الشهداء، وقال عن قطع يدي جعفر: لقد أبدله الله بهما
جناحين يطير بهما في الجنَّة.
1- مروج الذهب، المسعودي، 1: 506؟
2- على هامش السيرة، طه حسين، ص474.
3- بلدة في حوران، فيها قلعة تاريخية، وهي أول مدينة فتحها المسلمون في الشام عام
(634م): المنجد.
4- العبقريّات الإسلامية، عباس محمود العقاد، ص802-803.
5- الفتح المبين في غزوات سيِّد المرسلين صلى الله عليه وآله، سعد محسن الطائي،
حاشية الصفحة 209.
6- العبقريّات الإسلامية، ص803.
7- في جنوبي الأردن، اليوم، على بعد حوالي 262 كلم جنوبي العاصمة عمَّان.
8- منطقة في شمالي الأردن، قاعدتها السَّلط إلى الشمال الغربي من عمَّان.
9- حياة محمد صلى الله عليه وآله، محمد حسنين هيكل، ص411-412.
10- على هامش السيرة، ص474.
11- الفتح المبين، ص211، وبحاشيتها: وفي التنبيه والإشراق: 231 "نيِّفاً وتسعين
جراحة، كلُّها في مقادمه".
12- العبقريات الإسلامية، ص805.
13- معجم البلدان، الحموي، ج5، ص220.