ديما جمعة فوّاز
وانكسرَ إبريق الزّيت.. لعلّه خبر عاديّ عند أغلبكم،
ولكنّه أخذ حيّزاً كبيراً من الاهتمام في منزلنا.. فذاك الإبريق توارثته نساء
الأُسرة في عائلة أمّي من الجدّة الكبرى إلى جدّتها، وهكذا وصولاً إلى أميّ، هذا ما
أخبرنا به. وكنّا وإخوتي نحرص على تجنّب استخدامه، فهو على رفّ مرتفع في المطبخ.
وجدته أمّي ذات صباح على أرض المطبخ، وقد تحطّم إلى قطع صغيرة.. لم ندرك هول
الفاجعة سوى حين سمعنا صوتها يتردّد في أنحاء المنزل.. كانت تتوعّد بالويل والثبور
وتردّد: "مَنْ كسره؟".
هي دقائق وتحلّق أفراد الأسرة حولها، في الوقت الذي بدأت أختي تُخفّف عنها. ركض أخي
الصغير لالتقاط بعد أجزائه اللامعة عن الأرض فأبعده والدي خوفاً من أن يؤذي نفسه..
ما أغضب أمّي حقّاً أنّها كانت قد خبّأته في خزانة المطبخ، وأنّها أكيدة أنّ واحداً
منّا كسره -ربّما عن غير قصد- ولكنّه لم يكترث وترك آثار الجريمة وكأنّ شيئاً لم
يكن.. طلبت منّا أن نخرج من المطبخ ونترك كلّ شيء على حاله حتّى تكتشف الفاعل.
على طاولة الفطور، كرّرت أمّي سؤالها: "مَن كسر الإبريق؟ الأفضل لمن كسره أن يعترف
قبل أن تستيقظ جدّتكم وتدرك ما حصل.. وسأحاول أن أجنّبكم أيّ صدام معها...". نَظَرت
إلى وجوهنا جميعاً منتظرة أن تصدر منّا حركة انفعاليّة معيّنة.. ولكنّنا بقينا ننظر
إليها فيما اكتفى أخي الصغير بإصدار تثاؤبة قويّة كسرت جمود التحقيق..
لم أستطع بدوري أن أُحدّد هُويّة الفاعل، ولماذا لم يجمع القطع المكسورة بدلاً من
تركها مبعثرة على الأرض. توجّهت نحو غرفة الضيوف لإيقاظ جدّتي، ولكن المفاجأة أنّها
لم تكن نائمة، بل باغتَتْني بسؤالها حين دخلت الغرفة: "لماذا تركتموني نائمة حتّى
هذا الوقت المتأخّر.. هل دخلتم المطبخ؟ هل لمس أحد الإبريق المكسور؟". جحَظتْ عيناي
حين سمعتها تذكر الإبريق وهززت رأسي مؤكّداً: "والدتي منعتنا أن نلمس قطع الإبريق
وطردتنا من المطبخ".
"حسناً فعلَت..". تمتمت. خرجتُ مُسرعاً مهرولاً خلفها محاولاً استباق خطواتها..
دخلَت المطبخ وأخذت تبحث بين القطع المكسورة عن غطاء خشبيّ كان يُحكم إقفال
الإبريق. أمسكته بيدين مرتجفتين وقالت لي: "هيّا، اكنُس هذا الزجاج حتّى لا يتأذّى
أحد".
لحقتُ بها غير مكترثٍ بما طلبته منّي. وجدتها تتوجّه نحو أمي وتظهر لها الغطاء
الخشبي لتمسكه أمي بخشوع وتتبادلان أطراف الحديث، ثمّ صاحت جدّتي معلنة الخبر
اليقين: "انكسر معي الإبريق مساءً حين كنت أحاول أن أتناول كوب الماء، وفضّلت أن
أبحث في الصباح عن هذا الغطاء". صحتُ بغضب: "أنتِ كسرتِ إبريق الزيت المتوارث ولست
نادمة؟". ضحكت جدّتي صائحة: "ليس الإبريق هو المتوارث، إنّما هذا الغطاء الخشبي
الذي صنعته جدّتي الأولى من بذور الزيتون وحفرت عليه اسم الجلالة.. ولكنّني فضّلت
أن أضعه فوق إبريق مزركش ومميّز لأحافظ عليه.. لأنّكم جيل اليوم لن تعطوا هذه
القطعة الخشبيّة الصغيرة أيّ أهمية إلّا إذا وُجدت فوق إبريق زجاجيّ ملوّن يغرّكم
شكله وحجمه ولا تلمسونه أبداً".
بصراحة، كانت جدّتي محقّة، فنحن نهتمّ دوماً بالإطار أكثر من اهتمامنا للصورة
التي داخله، ونسارع لامتلاك ما يُبهرنا شكله ولونه، حتى إنّنا نحكم على من حولنا
أحياناً من خلال مظهرهم، حتّى إبريق الزيت الموجود في منزلنا منذ زمن لم ألتفت
يوماً إلى غطائه الخشبيّ على الرغم من الحرفيّة العالية التي صنعته بها جدّتي
الأولى!