نفوس أبية لا كلُّت ولا ملُّت، وأجساد مطهرة في تُراب لبنان حلَّت، فلم تعرف الوهن يوماً، لا في حياتها، ولا حتى بعد مماتها، ومع ذلك بقيت حجَّة للقلوب البيضاء ومقصداً لأهل العلم والتقوى، أعيانهم مفقودة، لكن أمثالهم في القلوب موجودة، هذه هي الحكاية المختصرة لمن لم تختصرهم المسافات ولا الأحقاب، فبرزوا في مضاجعهم على الربى والتلال، حيث لا تنجّسهم الجاهلية بخطواتها، فكانت مشاهدهم منارات هدى حقاً ترفد العطاء بالسخاء راحاً وروحاً وريحاناً،
فمن أقصى الجنوب إلى أقصر الشمال ومن البقاع فجبل لبنان توزعت المشاهد الإسلامية المقدسة بين القرى والمدن والتي تشرفت بلقب النبوة من عامة الناس تيمناً بأصالتها وفائدة بركاتها، فازدانت عمارتها وتطاولت أبنيتها، بيد أن من المؤسف أن تكون مبتورة التاريخ والجذور الكتابية فلا أدلة ولا نصوص كافية باستثناء ما أسرّه السلف إلى الخلف من روايات وحكايات قد تضيف لها الأيام لمحة من الأخبار فتدخلها في عالم أشبه بالأساطير فكانت أخبارها منسيَّة توجب على القاصي والداني تبصرة أكبر مما يسمعه أو يشاهده، ومع ذلك فالوقفية مقدسة وحرمتها معظّمة بين الجميع الذين التزموا بمبدأ "حد الوقف لا توقف وقف" لذا فإن الكثير من هذه الأوقاف قد حافظت على ملكيتها بحدودها مع تواتر الأيام رغم ظلم الجار الذي غالباً ما ينقصها من أطرافها شيئاً هنا وشيئاً هناك.
وبطبيعة الحال فإن ليس كل صاحب مشهد نبياً وإنما اصطلاح العوام على تسميته بالنبي أمر يطلق على الأولياء والعلماء والصالحين كافة، والجميل الجدير بالذكر الحديث عن مقامات لها صلة مباشرة بالأوائل الذين استوطنوا الأرض وعمّروها كمقامي هابيل وقابيل. في الجبل الشرقي من بلدة الخريبة البقاعية ومشهد البكر الأول لآدم بعد أخويه النبي شيث عليه السلام في بلدة النبي شيث، مما تعطي بلادنا شرفاً أكبر بالقدم والقدسية والأصول والجذور فتصبح من الأرض المباركة والتي بارك الله ما حولها.
والحقيقة العلمية تفرض
علينا تبيان الفرق الواضح بين المصطلحات المتعلقة بهذا الشأن بين لفظة مقام ومزار
ومشهد والذي يخلط بينهم العامة بشكل كبير، فالمقام اسم لموضع القيام أخذاً من قام
يقوم مقاماً. أي مكان إقامة هذا الولي أو النبي ومكان تردده ووجوده. من هنا نجد
مقاماً للخضر في الصرفند على سبيل المثال وفي بلدة راس اسطا أو في بلدة كفردبش
وغيرها كأن يتخذ أحدنا منزلاً آخر كمصيفٍ أو احتياطاً، وبما أن كلمة مقام استعملت
فيما بعد للدلالة على مكانة الرجل الكبير من باب التشريف والتعظيم، فهي استخدمت
أيضاً في الإشارة على المشاهد التي تحتوي الأضرحة والقبور ما أثار لغطاً كبيراً.
بعد التحقيقات المختصرة التي قدمناها والتي استهدفنا منها تسليط الضوء على مقامات
الأنبياء والأولياء والصالحين، ارتأى الأخوة في مؤسسة جهاد البناء ودائرة الآثار
إضافة بعض ما عندهم على هذا الصعيد وهم مشكورون مأجورون.. فإلى قرَّاء المجلة تلكم
التحقيقات والتي ستكون عبر حلقات.
أما المزار فإن المعنى
يشير إلى تعاهد الناس لهذا المقام أو المشهد بأوقات معينة كأيام عاشوراء والجمعات
والأعياد والأربعين حيث يقصد الناس الزيارة، وقد لا يكون المزار كما أشرنا قبراً بل
بناءً تذكارياً يخلد حادثة تتصل بسمو هذه الشخصية أو تلك.
أما المشهد فهو المسجد المدفني الحاوي للضريح وغالباً ما كُرس هذا المصطلح لمدافن
الأئمة عليهم السلام، وأن طوس البلدة الإيرانية قد أصبحت "مشهد" نسبة إلى ضمها
المشهد المقدس للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.
وبالتالي فإن كثيراً من
هذه المعالم تندرج تحت هذا التعريف الوارد ذكره أعلاه وبذلك نستطيع أن نوفر الكثير
من التساؤلات المحيّرة، وبحكم موقع لبنان المميز وإلهام لتوسطه البلاد وسكانه من
العباد من طوائف عدة يحتم اقتسام هذه الملل لهذه الأضرحة والمزارات حسب الانتشار
الديموغرافي للسكان، ومع تنوع هذه المقامات فإن التقاليد المشتركة في ما بينها تبقى
واحدة، التعظيم والتكريم.
فإلى أهم المشاهد والمعالم الإسلامية في لبنان:
* مقام النبي يونس عليه السلام - الجيَّة:
يتوسط المقام الطريق الساحلية بين العاصمة بيروت ومدينة صيدا عند بلدة الجيَّة
الساحلية للجهة الغربية حيث تلامس أمواج البحر الجدران الخارجية للمقام، في موقع
استراتيجي مميز دلت عليه نتائج الحفريات الأثرية التي كشفت عن حقبة تاريخية مهمة من
التاريخ البيزنطي، كنيسة فريدة من نوعها ومساكن شعبية آهلة تشهد على قدم هذا المكان
وأهميته، وقد منع وجود المزار ضمن الأحنياء السكنية كل المحاولات للتنقيب عن الآثار..
ويختلف المؤرّخون وعلماء الآثار بتحديد نسب المقام وهويته الحقيقية من كونه النبي يونس (عليه السلام) الذي التقمه الحوت ولفظه على الشاطىء لعدة حقائق واعتبارات. فيما يعتبر البعض الآخر أن ذلك الاحتمال بعيد عن الواقع وعن الصحة، وبالتالي فبين أيدينا مقام ذو شأن كبير عند عامة الأهالي الذين يقصدونه ويتبركون بزيارته من كل حدب وصوب وذلك للكرامات العديدة التي تحصل بين الحين والآخر، وقد تحول المقام إلى مسجد فيما بعد ثم شملته أعمال الترميم والتوسيع كما تشير إلى ذلك حالة البناء.
وقد ثبتت لوحة رخامية على
أحد الجدران الخارجية لباحة المقام تشير إلى آخر تأريخ لبناء أحد المساجد المضافة
للمقام وذلك عام 1347هـ، وتشير الواجهة الخارجية للمقام عن الحجم الكبير للبناء حيث
العقود الخاصة بالمسجد قد تهدمت مؤخراً بهدف الترميم والتوسيع، كما أن مستوى أرضية
المزار المنخفضة عن محيطها إشارة أخرى على قدم هذا المكان، والذي يقدر تاريخه بأكثر
من 600 عام تقريباً. وهو يتألف من باحة مستطيلة الشكل تتقاطع جدرانها بواسطة عقود
إسلامية الطراز محمولة على جدران وأعمدة رخامية، ويتوسط محراب جميل الجدار الجنوبي
لجهة القبلة يتقدمه رواق الصلاة أولاً ومن ثم الرواق الثاني الذي تفصله عقود ضخمة.
وخلف المحراب للجهة الشرقية باب ضيق يؤدي إلى غرفة صغيرة يتوسطها ضريح للنبي يونس عليه
السلام محاط بسياج حديدي حديث وقد استبدلت الحجارة القديمة ببلاطات رخامية
حديثة أيضاً تبرع بها أحد أعيان البلدة وقد كتب عليها النقش الآتي:
لقد أعان الله وبفضله ومنَّه
صبحي بن شكيب الخطيب
من أهال الجيَّة
على تشييد هذا المقام للنبي الكريم
يونس بن متى
عليه الصلاة والسلام
تشييده في شهر رجب من
سنة 1389 هجرية.
ومن المشاهدات الهامة الجدران الخارجية ذات سماكة تقدّر بحوالي المتر، كذلك
العقود القوطية الطراز والأعمدة المتعددة التيجان والقواعد التي يغلب عليها البساطة
في الشكل والتواضع في المادة، كما أن أعمال الصيانة والترميم الفرديين قد أتت على
جمال البناء من الناحية الأثرية والتاريخية فطمستها وشوهتها وعملت على ضياع تاريخها،
حتى أن الاحتلال الصهيوني في اجتياح عام 1982 قد استولى على لوحة أثرية قديمة كانت
مثبتة على المدخل الرئيسي للمقام.
يغص المقام أيام الجمعات والأعياد بالمصلين والمؤمنين حيث تقام فيه الصلاة جماعة،
كما أن توافد الزائرين بشكل دائم طيلة الأسبوع يجعله عامراً بالحركة والبركة
والاطمئنان كما تحفه أضرحة إسلامية من جميع جهاته.