الشيخ تامر محمد حمزة
هو أبو وهب، بهلول بن عمرو الصيرفي الكوفيّ، وقيل: بهلول الصيرفيّ الكوفيّ، أبو
وهيب. وقيل: اسمه البهلول، أو هو لقب له قبل إظهاره للجنون. ويدل عليه أنّ "بهلول"
تُقرأ بالضمّ وجمعه "بهاليل" ومعناه السيّد الجامع لصفات الخير، والمرِح
والضحّاك(1). لم يُعثر على تاريخ ولادته ولا على مدّة حياته. وهو ممّن ذكره الشيخ
الطوسيّ في رجاله، حيث عدّه من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وممّن روى عنه(2).
كما يُنقل أنّه من أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام، كما سيتبيّن لاحقاً.
ومن ثمّ أصبحت شخصيّته مدار جدل بين العلماء والسياسيّين، فهو من جهة أضحى محلّ
سخرية واستهزاء من قبل الطبقة الحاكمة وعموم الناس بعد أن تظاهر بالجنون، وتخلّى عن
مقامه العالي وعن شأنيّته الاجتماعية مقابل أن يفرّ بدينه ويحفظ آخرته، وقضى ما
يقارب الربع قرن من عمره الشريف على هذه الحال مع عدم التخلّي عن دوره ومهامّه.
وكان من جهة أخرى وجهاً علمياً ومتقدماً في العلماء وكان اسمه الاسم الأول الذي
قُدّم إلى شخص هارون العباسيّ ليتسلّم رئاسة القضاء في بغداد.
* أسباب إظهاره الجنون
لمّا أراد هارون العباسيّ أن يُسند القضاء في بغداد شاور أصحابه، فأجمعوا على أنّه
لا يصلح لذلك إلّا البهلول "وهب بن عمرو" فاستدعاه وقال: "أيّها الشيخ الفقيه أعنّا
على عملنا هذا، قال: بأيّ شيء أُعينك؟ قال: بعمل القضاء، قال: أنا لا أصلح لذلك،
قال: أطبَقَ أهل بغداد أنّك صالح لهذا العمل، قال: يا سبحان الله إنّي أعرف بنفسي
منهم، ثمّ إنّي في إخباري عن نفسي بأنّي لا أصلح للقضاء لا يخلو من وجهين: إما أن
أكون صادقاً فهو ما أقول، وإنْ كنت كاذباً، فالكذّاب لا يصلح لهذا العمل، فألحّ
عليه وشدّد وقال: لا أدعك أو تقبل هذا، قال: إنْ كان ولا بدّ فأمهلني الليلة حتّى
أفكّر في أمري"، فأمهله، فخرج من عنده فلمّا أصبح في اليوم الثاني تجانَن وركب قصبة
ودخل السوق وكان يقول طرّقوا خلِّلوا الطريق لا يطأكم فرسي، فقال الناس: جنّ
البهلول، فقيل ذلك لهارون فقال: ما جنّ ولكن فرّ بدينه منا، وبقي على ذلك إلى أن
مات وكان من عقلاء المجانين(3).
وقيل أيضاً إنّه قد سعى هارون إلى التخلّص من الإمام الكاظم عليه السلام وتحايل في
ذلك، فأرسل إلى حمَلة الفتوى يستفتيهم في إباحة دمه متّهماً إيّاه بإرادة الخروج
عليه ومنهم البهلول، فخاف من هذا واستشار الإمام الكاظم عليه السلام فأمره بإظهار
الجنون(4).
* اللقاء بين هارون العباسيّ والبهلول
خرج هارون إلى الحجّ، فلمّا كان بظاهر الكوفة أبصر بهلولاً المجنون على قصبة وخلفه
الصبيان وهو يعدو فقال: "من هذا؟ فقيل له: بُهلول المجنون، فقال: كنت أشتهي أن أراه
فادعوه من غير ترويع فذهبوا إليه وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فلم يُجب، فذهب إليه
هارون وقال: السلام عليك يا بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، فقال:
دعوتك لاشتياقي إليك، فقال بهلول: لكنّي لم أشتق إليك، فقال هارون: عظني يا بهلول،
فقال: بمَ أعظك؟ هذه قصورهم وهذه قبورهم، فقال هارون: زدني فقد أحسنت، فقال: يا
أمير المؤمنين، من رزقه الله مالاً وجمالاً وأنصف في جماله وواسى في ماله كُتب في
ديوان الأبرار، فظنّ هارون أنّه يريد شيئاً، فقال: قد أمرنا لك أن تقضي ديْنك،
فقال: لا يا أمير المؤمنين، لا تقضي الدين بديْن، اردد الحقّ على أهله، واقضِ دَين
نفسك من نفسك، قال: فإنّا أمرنا أن يجرى عليك، فقال: يا أمير المؤمنين أتُرى الله
يعطيك وينساني؟"(5).
* بهلول ووزير هارون
مرّ الوزير إلى جانب مقبرة ورأى بهلولاً وحيداً بين المقابر وهو مشغول ينقل العظام
اليابسة من مكان إلى آخر، فسأله: ماذا أنت صانع يا بهلول؟ فأجاب: إنني أصنّف الموتى
أريد أن أفصل بين الرؤساء والمرؤوسين والوزراء والخدم ولكن لم أتمكّن، فهذه الجمجمة
لا تفرق عن تلك الجمجمة وقبورهم تتشابه أيضاً(6).
* موعظة لهارون
يروى أنّ بهلولاً قال لهارون واعظاً: "يا أمير المؤمنين، كيف لو أقامك الله بين
يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير، فخنقت العَبرة هارون، فقال الحاجب: حسبك يا
بهلول، قد أوجعت أمير المؤمنين، فقال هارون: دعه، فقال بهلول: إنما أفسَده أنت
وأضرابك، فقال هارون: أريد أن أصلك بصلة، فقال بهلول: رُدّها على من أُخذت منه،
فقال هارون: فحاجة، قال: أن لا تراني ولا أراك(7).
* بهلول وزبيدة زوجة هارون
مرّت زبيدة زوجة هارون ببهلول وهو يلعب مع الصبيان ويخطّ على الأرض في إصبعه فلمّا
رأت زبيدة ذلك تأمّلت في ما يصنع وسألته: "ماذا تفعل؟ قال بهلول للصبيان وهو يخطّ
تراب الأرض بإصبعه: لا تهدموا البيت الذي بنيته، ثم التفت إلى زبيدة وقال: أما ترين
أنّني مشغول ببناء البيت؟ أرادت زبيدة مساعدة بهلول إلّا أنّها كانت تعلم أنّه يرفض
ذلك.. تأمّلت قليلاً ثمّ قالت: أراك تبني بيتاً جميلاً يليق بالعظماء، وها أنا أرغب
في شرائه منك، أجابها بهلول وهو منكِّس رأسه إلى الأرض يخطّ على ترابها بإصبعه: هذا
البيت؟ نعم، أبيعك إيّاه، فقالت: اشتريت منك هذه الدار، فكم يكون ثمنها؟ قام بهلول
على قدميه، وسوّى ظهره وقد كانت في يده عصا أشار بها إلى الصبية وقال: بألف دينار
لي ولهؤلاء الذين أعانوني في بنائها. أشارت زبيدة إلى أحد خَدمها وقالت: أعطه ألف
دينار، ثمّ انصرفت عنه. أخذ بهلول الدنانير التي كانت سككاً ذهبية، وقسّمها بين
الفقراء فلم يبقَ في كيسه دينار واحد"(8).
* مناظرته مع أحد أئمة المذاهب
رويَ أنّ البهلول أتى إلى المسجد يوماً وبعض أئمة المذاهب يقرّر علومه للناس فقال:
"إنّ جعفر بن محمد الصادق عليه السلام تكلّم في مسائل ما يعجبني كلامه فيها:
أ- يقول إنّ الله سبحانه موجود، لكنّه لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، وهل يكون
موجوداً لا يرى؟ ما هذا إلا تناقض!
ب- قال إنّ الشيطان يعذَّب في النار مع أنّ الشيطان خُلق من النار، فكيف يعذّب
الشيء بما خُلق منه؟
ج- يقول إنّ أفعال العباد مستندة إليهم مع أنّ الآيات دالة على أنّه تعالى فاعل كل
شيء؟
فلمّا سمعه البهلول أخذ مَدَرَة وضرب رأسه وشجّه، وصار الدم يسيل على وجهه ولحيته
فبادر إلى الخليفة يشكو من بهلول.
فلما أُحضر بهلول وسُئل عن السبب، قال للخليفة: إنّ هذا الرجل غلَّط جعفر بن محمد
عليهما السلام في ثلاث مسائل.
1- إنّه يزعم أن الأفعال كلّها لا فاعل لها إلّا الله فهذه الشجّة من الله تعالى،
وما تقصيري؟
2- الثانية إنّه يقول: كلّ شيء موجود لا بدّ من أن يرى، فهذا الوجع في رأسه يوجد مع
أنّه لا يرى.
3- إنّه مخلوق من تراب، وهذه المَدَرَة من التراب وهو يقول: إنّ الجنس لا يُعذَّب
بجنسه، فكيف يتألّم من هذه المَدَرَة؟ فأعجب كلامه الخليفة"(9).
* خلاصة حياته رسالة...
وبعد التأمل في سيرته التبليغيّة والتأنّي في دراسة مسيرته العلمية، يصل المرء إلى
خلاصة، وهي:
أوّلاً: الدفاع عن المقام الشامخ لولاية أهل البيت عليهم السلام وإظهار حقّانيّتهم
في الخلافة ومقامهم العلميّ، وهذا واضح من خلال مناقشته مع علماء البلاط ومع الطبقة
المتسلّطة.
ثانياً: توجيه النقد البنّاء لأركان السلطة، بدءاً برأس الهرم المتمثّل بهارون إلى
أصغر موقع في السلطة، وتذكيرهم بآخرتهم لإرجاع الحقّ إلى أهله. ويظهر هذا بوضوح من
خلال مناظرته أركان السلطة.
ثالثاً: الدفاع عن الطبقة الشعبيّة الفقيرة والمستضعفة، والعمل الدؤوب لتأمين لقمة
العيش لهم، كما يظهر من بعض تلك الوقائع التي جرت بينه وبين الحُكّام وحاشيتهم.
* وفاته
ووقع الخلاف في تاريخ وفاته أكان عام 190هـ أم 192هـ أم 197هـ. والأرجح أنّ الشيخ
البهلول توفّي سنة 197هـ، كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق النحويّ في كتابه "الفاضل في
صفة الأدب الكامل". ومرقده معروف في بغداد، في مقبرة الكرْخ القديمة. ولقد عمّر
مرقده كاظم باشا سنة 1893م، وبنى له بنياناً حسناً وعليه قبّة، وهو من المراقد
الأثريّة التي تقع خلف مرقد الشيخ "معروف الكَرْخي".
1.الأغاني، أبي الفرج الأصفهاني، ج18، ص453.
2.رجال الطوسي، الطوسي، ص173.
3.العوالم، الشيخ عبد الله البحراني، ج18 ص120.
4.بحار الأنوار، المجلسي، ح46 ص89.
5.عقلاء المجانين، النيسابوري، ص67.
6.(م. ن).
7.(م.ن)، ص70.
8.أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج3 ص617.
9.يراجع: (م.ن)، ص618.