ما زال الحديث عن النقاط الأساسية التي يجب مراعاتها في عملية التحليل السياسي وقد ذكرنا في الدروس السابقة ثلاثة شروط هي: امتلاك الهدف وطرح السؤال والاستفادة من مصادر المعلومات. وفي هذه الحلقة ستتناول شروطاً أخرى.
4 - معرفة مميزات ونصائص القادة السياسيين:
وهم أصحاب القرار الذين ينتهجون في حركتهم السياسية خطاً معيناً حتى لو كان هذا الخط منحنياً أو ملتوياً. إن معرفة مميزاتهم والاطلاع على مبادئهم يساعد على الاقتراب من فهم أبعاد المواقف أو التصريحات التي يطلقونها. من كان يعرف شخصية صدام ونهجه كان ينتظر انسحاباً عراقياً، من تلك الإمارة بعد هجوم القوى الغربية، وما أصدق ما عبر عنه الإمام الخميني قدس سره يوماً حين شبه صدام بالغول الذي سف يهجم فيما بعد على الذين ساعدوه ومولّوه للهجوم على الجمهورية الإسلامية. من كان يعرف ياسر عرفات ونهجه كان عليه أن يتوقع تلك الحركة الاستسلامية التي بدأت منذ أكثر من عشر سنوات ولم تنته وفي نفس الوقت يفهم سر تأثيره الملحوظ على الشعب الفلسطيني.
أولئك الذين يصلون إلى البيت الأبيض على رأس أمريكا يمرّون بحياة طويلة من التركيبة الفكرية ولا يمكن بعدها أن ننتظر منهم مناصرة لقضايانا العربية و... من يتعرف على النهج المسيطر على القوى الحاكمة في أي بلدٍ ثم يربط ذلك بشخصية المسؤول أو الرئيس يمتلك قدراً أكبر من المعطيات التي تساعده على التحليل السياسي.
5 - الالتفات إلى أهمية الرأي العام:
وفي نفس الوقت الذي تلعب شخصية المسؤول الدور الأكبر في صناعة القرار السياسي للدولة، لا ينبغي أن نهمل الرأي العام والتحولات التي يعيشها الشعب. لقد كان للرأي العام في الولايات المتحدة أثرٌ واضحٌ في نتائج غزو فيتنام رغم السيطرة التامة على وسائل الإعلام في ذلك البلد وهيمنة الرعاية السياسية الرسمية، (هذه السيطرة لا تشبه سيطرة الدولة الدكتاتورية حيث تتصدر صورة الرئيس كل صفحات المجلات والجرائد وسوف يكون لهذا الموضوع بحث مستقل). وقد يحدث في بعض الدول أن نعول على شخصية الرئيس ودوره بشكل كبير ثم نستيقظ في اليوم التالي على ثورة عارمة تطيح بعرشه. قد يكون القرار السياسي مصراً على الاستمرار في الحرب ولكن جماهير الشعب ترفض ذلك وتؤثر في تغيير مجرى الأحداث.
للتعرف على الرأي العام يوجد أساليب متعددة معظمها لا يتمتع بالقوة والصحة. مثل الاعتماد على استطلاعات الآراء حيث تعطى النسب بشكل يوحي بأن الدراسة قد أجريت على كافة أفراد الشعب ولكن هذه الدراسات تعتمد على مجموعة محدودة جداً من الناس قد لا يفوق عددها المئات المنفردة فمن بين 100 شخص يعبر 40 عن تأييدهم للحرب و35 عن رفضهم و25 عن حيادهم فتكون النتيجة أن 40% من الشعب الفلاني مع الحرب و35% منهم ضد الحرب و25% محايدون.
ويكفي في هذا المجال للحكم على الاستطلاعات التي تجريها المؤسسات الرسمية وغيرها، إعادة النظر بعشرات الاستطلاعات التي كانت تجرى حول انتخابات أو مواقف تريد أن تتخذها الدولة لنجد بعد فترة ما هو عكس نتائجها. نعم أن استطلاعات الرأي هي طريقة استقراء منطقية فيما إذا كانت عناصرها تمثل الفئات المختلفة للمجتمع وروعيت فيها تلك النسب وشملت عدداً كبيراً نسبياً، عندها يمكن القول أن استطلاع الرأي يقرّب الصورة أو يعطي نموذجاً عما يجول في أذهان الناس.
الأسلوب الآخر للتعرف على رأي الناس قد يكون بالنظر في الجرائد والتصريحات الرسمية وهو فاشل لا يمكن الاعتماد عليه. لأن معظم الحكومات تريد أن تبين التفاف الناس حولها وتأييدهم لسياستها.
الأسلوب الناجح هو الدراسة الاجتماعية عن قرب لطبيعة تفكير المجتمع والثقافة التي تحكمه وكذلك مدى تأثير السلطة الحاكمة عليه خاصة في إيجاد التغيير. تتميز بعض الشعوب بشعور قوي بأهمية الحرية كالشعب الأفغاني. فعندما كانت قوات الجيش الأحمر السوفياتي تغزو أفغانستان وقد أحكمت سيطرتها على كل شيء في البلاد وفي نفس الليلة طلب السفير الروسي مقابلة الإمام وأخبره بما حدث فغضب الإمام قدس سره وقال له إنكم سوف تندحرون ولن يكون لكم قرار في هذا البلد. هل كان الإمام يعتمد في كلامه هذا على مجرد الأمل أم أنه كان مطلعاً على طبيعة الشعب الأفغاني الذي لم تستطع أية قوة أجنبية حكمه منذ مئات السنين. بعض الشعوب تتميز بوعي عال ولكن إرادة ضعيفة وربما تسنح لها الظروف السياسية والخارجية للإطاحة بالنظام الظالم ولكنها تغرق في نزاعات التركيبة الطائفية أو الحزبية...
عندما يعتمد المحلل السياسي على الدراسات والأبحاث الدقيقة حول الشعوب (وهذا ما يمكن أن يبحث تحت عنوان علم النفس الاجتماعي) فإنه يصبح أقدر على رسم صورة واضحة لمجريات الأحداث وتحليل الوقائع.