الشيخ الشهيد راغب حرب (رضوان الله عليه)
الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ (الأعلى: 2 - 5). الحمد الله الذي هدانا للإسلام وما كنّا
لنهتدي لولا أن هدانا الله. عباد الله، اتّقوا الله وأطيعوا أمره، وانتهوا عمّا
نهاكم يؤتكم أجركم مرّتين
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن: 46)، و﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 102).
* ولادته سرٌّ أراده الله
تصادف ذكرى ولادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الثالث عشر من شهر
رجب، قبل عشر سنواتٍ من بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وُلد عليه السلام
في بيت الله عزّ وجلّ، في الكعبة البيت الحرام، ولم يكن قد وُلد في البيت الحرام
قبله إنسانٌ على الأرجح، ولا بعده. وما هذا إلّا لسرٍّ أراده الله تعالى بأن يُصادف
أنّ أمّ الإمام عليّ (عليها الرحمة) قد جاءها المخاض أثناء الطواف، فدعت ربها بحقّ
إبراهيم عليه السلام أن يستر عليها، فانشقّ لها جدار الكعبة المقفلة، فدخلت إليها،
ووضعت علياً عليه السلام. وقد نظَم الشعراء في هذا المعنى كثيراً من الأبيات، منها
ما قاله الشاعر عبد الباقي العمريّ:
أنت العليُّ الذي فوق العُلى رُفعا | ببطن مكّة وسط البيت [إذ] وضعا |
في تلك الفترة إذاً، كان
في وِلادته أمرٌ لافت للانتباه. ولعلّ شهرة ولادته في البيت المبارك هي التي جعلت
من ذلك اليوم يوماً معروفاً لا اختلاف فيه؛ إذ يندر في تلك الفترة -باعتبار أنّ
المجتمع القرشيّ كان مجتمعاً أمّياً لا يهتمّ بالتدوين- يندر أن تعرف بالتأكيد متى
كان مولد فلانٍ، ومتى كان يوم وفاته. ولذلك نجد أنّ الاختلاف في الروايات -حتّى في
مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- موجود، ولكن لا نجد ذلك في مولد عليٍّ
عليه السلام في التاريخ.
* عليّ صُنع على عين الله
في حياة علي عليه السلام صور أروع وأكثر تألّقاً، وأكثر كرامةً وفخراً، من مولده في
الكعبة، حيث إنّها أمورٌ صنعها عليه السلام بجهده وجهاده، وما يصنعه المرء بجهده
وجهاده يستحقّ له من الله الأجر أكثر، ويستحقّ له من الناس الثناء أكثر.
أيضاً عليٌّ عليه السلام ليست ولادته في الكعبة هي الشيء اللافت للنظر، لكن حياته
كلّها هي الأكثر لفتاً للنظر من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فهو أكمل
الناس بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أكمل الناس صفاتٍ بعد الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم. عليٌ عليه السلام أنموذجٌ صُنع على عين الله كما صُنع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم على عين الله، وتمايز عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بالرسالة وبالوحي، وإلّا فهو صِنْو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخٌ لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم.
* لحظةٌ من عمره تتجاوز الزمان
إذا مات الإنسان ختمت حياته الدنيا، وبدأت حياةٌ أخرى. بالنسبة إليه الناس -من
حوله- يتساءلون ماذا ترك؟ وهي روايةٌ: "إنّ الجنازة إذا حُملت قال الناس: ماذا
ترك؟ وقالت الملائكة: ماذا قدّم؟"(1).
بعض الناس تحتاج إلى جهودٍ عظيمة من أجل أن تحصر أعمالهم: أعمال الخير وأعمال
البرّ. وبعض الناس تحتاج إلى جهدٍ لتُحصي مساوئهم، ولكن يوجد من الناس مَن إذا أردت
أن تتحدّث عن حياته، لا تستطيع أن تقول سوى إنه مات حيث وُلد، كأنّه ما وُلد وما
مات. هذه النماذج من الناس موجودةٌ في حياتنا بالملايين.
أما رجلٌ كعليّ عليه السلام، فإنّه عاش حياةً كلّ عامٍ منها يكبر حتّى يتجاوز
الأعوام، كلّ لحظةٍ منها تكبر حتى تتجاوز الزمان، ولذلك نجد أنّ فعل الخير الذي
أسّس أركانه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ عليه السلام لا يزال
قائماً حتى الآن، ولا يزال حياً حتّى الآن. وإني لأستحسن تعبير أحدهم عن ضربة، عن
عملٍ واحدٍ من عمله الذي عبّر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه أفضل من
عمل الثَقَلين، وهو قتاله يوم الخندق، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لضربة
عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين". هذه الضربة التي يُعبّر أحد الشعراء عنها
بأنّها لا تزال حتّى الآن لها في مسمع الدهر صدى، وهي عملٌ واحد من أعمال عليّ عليه
السلام.
* صور من حياة عليّ عليه السلام
أنا لا أستطيع أن أوجز حياة هذا العظيم، ولكني أستطيع أن آخذ منها صوراً. وكلّ
صورةٍ من صور حياته هي نسخٌ من المكارم متكرّرة، تختلف فيها المواضيع، وتختلف فيها
الأحداث، ولكن لا يختلف فيها المضمون ولا يختلف فيها المحتوى.
- الصورة الأولى: اختار العبوديّة طفلاً
حياة عليٍّ عليه السلام اللافتة للانتباه، المثيرة للتساؤل، تبدأ منذ البعثة، وقد
كان عمره الشريف عشر سنين فقط، حينها طلب إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم أن يعتنق الإسلام، وأن يشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمداً صلى الله عليه
وآله وسلم رسول الله. في هذه الحادثة أمران يستحقّان التوقّف عندهما: الأمر الأول،
دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له في هذه السنّ المبكرة، قبل أن يدعو
أحداً من الرجال، من الكبار، هي بالتأكيد ناجمة عن أمر الله.
الإسلام لا يُدعى إليه الأطفال. إذاً كان الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يريان أن علياً عليه السلام أكبر من طفل، وإنّما هو وإنْ كانت سنّه في سنّ
الأطفال، ولكن هو في الحقيقة رجلٌ يستطيع أن يختار عبوديّة الله، ويترك عبوديّة
الطاغوت. لذلك دعاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام.
- الصورة الثانية: لازم الرسول كظلّه
الأمر الثاني اللافت للنظر هو أنّ علياً عليه السلام كان كظلّ الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم لا يفارقه أبداً، ينام في بيته، ويأكل على مائدته، يتنزّل الوحي على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرأىً ومسمع من عليٍّ عليه السلام، ويرى وجه الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم وقد تغيّر حينما يتنزّل عليه الوحي. كلّ آيةٍ نزلت، وكلّ
توجيهٍ أنزله الله للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلقّاهما عليٌ عليه السلام
من بعده مباشرةً. وهناك نصٌّ آخر يُثبت أكثر من ذلك، يقول فيه رجلٌ للرسول صلى الله
عليه وآله وسلم: إني أكره علياً. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويْحك، أدَخَلَ
النفاق إلى قلبك؟ والله ما نزل جبريل مرةً إلّا وكان يُقرئ علياً السلام، ويْحك،
إنّ هذا الرجل لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يُبغضه إلّا منافق". في هذه الفترة كان
عليٌّ عليه السلام كظلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يتبعه، يصلّي معه عن
يمينه، إذا صلّى قرب البيت، وليس في مكّة من يصلّي غيرهما. وكان لا يتوانى لحظةً
أبداً، عن تنفيذ ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
* صابراً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وتنتهي هذه الفترة: ثلاث عشرة سنة مرّت عليهما من التعب، ثلاث عشرة سنة كان فيها
كلّ الضنّك حتّى الجوع، من جملتها السنوات الثلاثة التي قضاها عليٌّ عليه السلام مع
كبار السنّ من المسلمين من بني هاشم في شِعب أبي طالب، كانوا يأكلون فيها نباتات
الأرض البدويّة، وكان عليٌّ عليه السلام أيضاً مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم صابراً، يأكل العشب مع بني هاشم ثلاث سنوات.
ثلاث عشرة سنة قضاها المسلمون في مكّة أصيبوا فيها بكلّ أنواع الامتحان، وذاق فيها
المسلمون القتل صبراً، وذاقوا فيها الجوع، واضطُروا إلى الهجرة الأولى وكانت إلى
الحبشة، ثم بدأوا بالهجرة الثانية إلى المدينة (يثرب آنذاك). ورسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أيضاً كان يصيبه ما يصيب المسلمين، إلى أن اضطُرّ يوماً بعد أن
توفّي أبو طالب إلى أن يذهب صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه إلى القبائل، يطلب
الحماية من هذه والإيمان من تلك، وكلٌّ يطلب منه أن يكون له نصيبٌ في الأمر، وما
إلى ذلك. وفي الطائف قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة عشر يوماً، وهو
يُطرد من بابٍ إلى باب، لا يجد من يؤويه، ولا مَن يحميه. هذه الفترة الطويلة قضاها
عليٌّ عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصبرا، وثبتَ لله صدقُ
نواياهما.
لذا، أمر الله المسلمين بالهجرة إلى المدينة، وإنهاء مرحلة الامتحان، وبدأت
بعدها مرحلة النصر.
(*) من خطبة يوم جمعة، ألقاها رحمه الله بتاريخ: 22/1/1982م.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص67.