مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

ثمانية عشر شهيداً في ملحمة ميدون البطولية عام 1988

"انظروا دماءنا... وتابعوا الطريق"
نسرين إدريس‏



* أبطال معركة ميدون الشهداء
حيدر حسن الموسوي النبي شيت 1965، أمير قاسم رزق مشغرة 1962، حسين هادي مرتضى تمنين التحتا 1959، حسان مهدي علاء الدين زبود 1968، زيد جميل الموسوي النبي شيت 1971، علي شحادة أمهز نيحا 1969، علي مهدي الحاج حسن الشواغير 1969، علي قاسم العنقوني مشغرة 1968، علي حسين شمص شعث 1969، عماد محمد قانصو النبعة 1970، غالب رياض مظلوم بريتال 1970، مالك علي الموسوي النبي شيت 1969، محمد إسماعيل قمر سحمر 1965، هشام قاسم حيدر أحمد الكرك 1969 أحمد محمد عبد اللَّه سرعين الفوقا 1964، حسن علي شكر النبي شيت 1962، عادل حسين الموسوي النبي شيت 1966، حسين رشيد مشيك مزرعة آل مشيك 1952 الأسير حسن محمد العنقوني: مشغرة 1960. متأهل وله ولدان، لا يزال أسيراً في سجن عسقلان في فلسطين المحتلة


يفلت الصبح من أزفّة الليل، وتضوع من بعض التلال حشرجات نهاية الحياة.. ومن هناك تشرق الشمس متوجةً بالمجد الأغر إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدىً.. لبوا داعي اللَّه فكان رحيلُهم أجملَ معنى للغة الحضور، خبأوا نجيعهم في خوابي الزمن ليكون إكسير الحياة فتستقي منه الناس مفردات الإيثار والتضحية والوفاء.. و"ميدون" قصيدة الدم والبطولة، ومعزوفة الانتصار الخالدة.. "ميدون" أجمل رايات الانتصار الموشحة بالدماء.. راية الحقيقة الواضحة التي رفعها مجاهدو المقاومة الإسلامية خلال مرحلة في غاية الدقة. في العام 1988، أي بعد حوالي سنتين فقط من انحسار الوجود الإسرائيلي على جزءٍ من الأراضي اللبنانية المحاذية لفلسطين المحتلة إزاء التطور المضطرد لعمليات حزب اللَّه الذي فرض نفسه كقوة جعلت العدو، رغم أنفه، يستخدم أسلوب الدفاع بعد أن كان مبادراً في شن مختلف الاعتداءات التي لا تزال بصماتها مدموغةً في ذاكرة الزمن.. "فمن كمينٍ صغير هنا، إلى هجوم متواضع هناك، إلى كمائن وعمليات نوعية واقتحام المواقع ومواجهات مباشرة"؛ مشاهد رائعة للمقاومين حشرت الكيان الصهيوني في زاوية ضيقة على "رقعة الشطرنج" التي لا مفر منها، أما جيش العميل لحد الذي جعلوه أكياس رمل تحميه، فسرعان ما انهار تحت نعال المجاهدين، ما جعل قيادة الجيش الإسرائيلي تخطط لضربةٍ تسترد من خلالها بعضاً من الأمجاد من جهة، ومن ناحيةٍ أخرى تضخ بعض العزيمة في شرايين مجنديها الخائفين من عيون مجاهدي حزب اللَّه اللامعة في وجوههم المموهة..

وكانت "ميدون" تلك القرية الصغيرة الغافية على أطراف البقاع الغربي ترنو نحو جبل عامل الأشم، الهدف "السهل" لضرب بقعة جغرافية يرابط في زواياها مجاهدون يحرسون القرى، ويتمركزون في مكانٍ قريب من الأرض التي تضم بأغلبها مجتمع المقاومة.. قبل حوالي شهرين من الملحمة الخالدة في ميدون، حاول العدو الإسرائيلي دخول البلدة عدة مرات، ولكن المواجهات العنيفة التي كان يتلقاها من المقاومين جعلته ينكفى‏ء إلى الخلف، لكن إصراره على توجيه ضربة موجعة لحزب اللَّه أعمت قيادته عن كل ما يمكن أن يتكبده من خسائر معنوية ناهيك عن الخسائر العسكرية.. وكانت المواجهة.. المواجهة التي قاد معركتها من الجانب الإسرائيلي رئيس أركان الجيش "شاؤول موفاز"، وأشرف على مجريات الأحداث رئيس وزراء العدو آنذاك المقبور "إسحاق رابين" من موقع "التومة".. وقد شارك في هذه المعركة "أفضل الجنود وأشجعهم" في كتيبة من لواء المظليين تساندهم كتيبتا مدرعات وكتيبة مدفعية، وتشكيل من مروحيات "الكوبرا" كانت مهمتها "تدمير بلدة ميدون تدميراً كاملاً"، وقد مهد الطيران الحربي لهذه المهمة قبل أسبوع من المواجهة بقصفٍ متواصل على مدى أربع وعشرين ساعة يومياً على جميع التلال والممرات المطلة على بلدة ميدون والمشرفة في الوقت ذاته على مواقع العدو حيث توجد نقاط رصد تابعة للمقاومة الإسلامية، إضافة إلى الغارات الوهمية على البلدة..

أما قيادة المقاومة التي كانت تراقب توتر العدو وانشغاله بالتخطيط لمعركة حامية باطمئنان وترقب و"أعصاب باردة" على الرغم من الإمكانيات غير المتكافئة، إلا أن خطة الحرب وضعت، والأدوار وزعت، وانشغل المجاهدون العاشقون للحسين عليه السلام عن ضجيج وطيس الحرب بهمسٍ وسكون لنيل الشهادة.. كان شهر رمضان المبارك، وكانوا رجالاً صاموا عن الدنيا ليس زهداً فيها وحباً بالآخرة فحسب، بل هياماً بأن تسيل دماؤهم في فجرٍ ضُرب فيه رأس أمير المؤمنين علي عليه السلام ليفوز بما فاز من رضوان ومغفرة وقربٍ من الرسول صلى الله عليه وآله.. انشغلوا طيلة أيامهم بالدعاء، لكن ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، الليلة الأولى من ليالي القدر العظيمة، كانت مختلفة جداً عندهم لأن إحياءها كان مختلفاً، ولأن تلبيتهم للباري عزّ وجلّ فيها كان مختلفاً.. كل المؤمنين في تلك الليلة كانوا يذرفون الدموع ليغفر اللَّه خطاياهم، ويقبلهم في ركب التوابين، ويتوسلون إليه ليرفع بلاء الحياة عنهم.. أما هم فكانوا يتوسلون اللَّه أن يختم لهم بالخير، وبشهادةٍ تتمزق فيها أجسادهم حباً له.. كانوا قلةً أمام نهرٍ من خيارات العيش، لكنهم أبوا إلا أن يغترفوا غرفة واحدة يروون بها عطشهم للقاء علي بن أبي طالب عليه السلام ويسقون بها العدو خسارةً لن ينساها.. اتخذ كل واحدٍ منهم زاوية وسلاحاً وكتاب دعاء بانتظار أوامر القيادة، وقد أخبرهم الشهيد علي شمص أنه رأى نفسه في حلمٍ قبل يومين ومجموعة من رفاقه يصلون في أرض ميدون بإمامة الإمام الحجة عجل الله فرجه، وعندما انتهت الصلاة مسح الإمام عجل الله فرجه على رأسه ورؤوس سبعة عشر آخرين من إخوانه.. تسابق الأخوة إليه عساه يتذكر الأسماء، فتذكر بعضها وحمد اللَّه وشكره أن منّ عليه وجعله شهيداً تحت راية الإمام الحجة عجل الله فرجه..

لكن هذا المنام لم يمر مر السحاب على المجاهدين، فراح كل واحدٍ منهم يسابق ليكون من أول المشاركين في المواجهة.. ليكتب اسمه على تلك اللائحة التي باركها معصوم.. وفي تلك الليلة راح كل واحد منهم يوصي أخاه بما في سريرته، ويدعون لبعضهم البعض أن ينالوا شهادةً مطهرة، ويتسامحون من بعضهم، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب وشفاههم تتمتم بالاستغفار والتوبة، ويتوسلون اللَّه أن يكتبهم في عداد الشهداء... أوصوا بعضهم البعض بالسير والمضي على نهج الإمام الخميني العظيم قدس سره والبقاء تحت أمر ولاية الفقيه، وتواعدوا أن يلتقوا في جناتٍ عند مليكٍ مقتدر.. وطلع الفجر على أعينٍ سهرت طوال الليل تناجي ربها أن "يثبت لها قدم صدقٍ مع الحسين عليه السلام".. حملوا السلاحَ صائمين، وتقدموا ليواجهوا بعتادهم المتواضع عدواً بترساناته المتطورة، لكن حسبهم أن ذخيرتهم سيف علوي وعزيمة حسينية ودعاء خالص للَّه، فكيف لا ينتصرون؟ كانوا يسيرون وهم يتمتمون: بسم اللَّه الرحمن الرحيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ..

قبل شروق الشمس كانت كل مجموعة في مكانها، وبدأ الجيش الإسرائيلي بالتقدم إلى الفخ الذي نصبه لنفسه بغباءٍ شديد.. وتقدمت مجموعة من المشاة باتجاه بلدة ميدون من جهة الجنوب فوقعت في الكمائن التي نصبها لها المجاهدون فدارت اشتباكات عنيفة أدت إلى سقوط قتلى صهاينة أهمهم قائد وحدة المظليين وجرح آخرين.. بدأت المعركة الحقيقية، تدخلت الدبابات والطيران الحربي والمروحي ليؤمنوا لمجموعة أخرى سحب القتلى والجرحى من الصهاينة.. كانوا يقصفون كل شي‏ء: البيوت، الأشجار، الصخور، حتى حطام السيارات وبقايا البيوت أعادت الطائرات قصفها لتجدد محاولة الدخول إلى ميدون، لكن دون جدوى.. فالمقاومون كانوا يخرجون من دشمهم ويتصدون لتلك المحاولات بكل بسالة، وكلما سقط شهيد أو جريح تزداد عزيمتهم أكثر.. "لقد دارت المعارك بين حزب اللَّه وبين المظلِّيين من منزل إلى منزل" هكذا وصفت صحيفة "هآرتس الإسرائيلية ما جرى في ميدون" التي اعتبرتها الصحيفة "أكبر عملية يقوم بها جيش الدفاع منذ الحرب اللبنانية" (هآرتس؛ أيار 1988)..


أكثر من ثلاثة آلاف وخمس مئة قذيفة وصاروخ خلال اثنتي عشرة ساعة في تلك البلدة الصغيرة التي تحولت إلى كومة من ركام وغبار بعد معركة دارت من بيت إلى بيت ومن شارع إلى آخر ومن دشمة إلى أخرى، تناقلت أحداثها وكالات الأنباء المحلية والعالمية وأكدت أن أكثر من 60 إصابة بين قتيل وجريح إضافةً إلى قائد الهجوم، فيما ارتفع للمقاومة الإسلامية ثمانية عشر شهيداً وأسير وحوالي ستة جرحى قاتلوا وصبروا وهم صائمون.. انسحب الجيش الإسرائيلي من أطراف بلدة ميدون يجر أذيال الهزيمة ويخبى‏ء هشاشة جيشه الورقي، معترفاً على لسان قائد العملية أن "القتال في القرية كان صعباً" (الاذاعة الإسرائيلية، أيار 1988). انجلى الغبار، وتقدم المجاهدون الظافرون ليقطفوا أجساد شهدائهم الأبرار عن التراب الطاهر والحر، وعند العثور على جثة أحد الشهداء قرب صخرة كتب عليها بدمه قبل أن تصعد روحه إلى السماء "سقطنا شهداء ولم نركع.. انظروا دماءنا.. وتابعوا الطريق..".

إنهم مجاهدو حزب اللَّه؛ لم تنسهم ملاحم الوغى، فتحتَ كل تلة حكاية لبقعة من دم.. وعند كل وهدة يحضنها القندول والسماء حكاية للحظة أخيرة رسمتها يدٌ تودع الحياة.. والريحُ حتى الريحُ تعرف الجراح، والليل يحفظُ في سكونه عزف السلاح، ودمدمات الصبحِ بين شفاههم تُصلي حيّ على الفلاح.. لم تنسهم ملامح الوغى فها هنا الطريق نحو الآخرة، كم عبروا وعلى جباههم عصابات العشق.. الليلُ أحصاهم جميعاً فالفجرُ كان في ضلوعهم.. لم يخلقوا حتى يكونوا معنا فقلوبهم ظلت بكف اللَّه..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع