الشيخ إسماعيل حريري
* مقدمة:
لا يخفى على العاقل اللبيب أنَّ للنصر عوامل عدّة لا يتحقق إلا باجتماعها ومن هذه العوامل:
1 - الإيمان بحقية وعدالة القضية التي يجاهد ويضحّى لأجلها وفي سبيلها ويبذل النفس في سبيل تحقيق النصر فيها.
2 - القيادة الواعية والأمينة التي تعمل لصالح الأمة وعزّها ونصرها فيؤمن الشعب بها وبقدرتها على تحمل مسؤولية قيادة الجهاد والمجاهدين.
3 - وحدة الأمة والتفافها حول قضيتها الكبرى بحيث تكون هذه القضية محورَ اهتمام أفراد الأمة بمختلف توجهاتهم واعتقاداتهم الدينية والسياسية مما يُعطي للأمة القوة والعزّة والصمود في وجه التحديات الكبرى والمؤامرات الاستكبارية. ولكلٍّ من هذه العوامل دوره الذي لا يمكن تجاهله، ولا محيص من وجوده والعمل على إيجاده لتأثيره البالغ في تحقيق النصر للأمة وإن طال الزمان.
* دور الوحدة في تحقيق النصر:
أولاً: لا بد من الإشارة إلى أنَّ الوحدة والتوحّد من صفات المؤمنين والمسلمين، والتفرقة والاختلاف والتشرذم من صفات اليهود والمنافقين كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنّة. مضافاً إلى ما نراه من الآثار الايجابية المترتبة على وحدة الأمة، والآثار السلبية المترتبة على تفرّق الأمة من خلال النماذج التي سنستعرضها لاحقاً مما يبيّن خطر دور الوحدة في حياة الأمة في طريق النصر والفوز. ولذا نرى الحثَّ في الكتاب والسنّة على الوحدة وعدم التفرّق بل وذم التفرّق وتقبيحه. قال تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ (آل عمران: 103). وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ (الصف: 4). وفي بيان صفة اليهود في تشتت القلب وهو كناية عن تفرّقهم في الأهواء قال تعالى: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ (الحشر: 14).
وفي السنّة ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله في الحديث المشهور بين المسلمين: "مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى". وفي ذم التفرقة وتشتت الأهواء ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الجهاد حيث قال بعد أن ذكر تقاعس المسلمين عن مساعدة إخوانهم الذين أغارت عليهم خيل معاوية بن أبي سفيان فقتلت وفتكت وهتكت : "فيا عجباً، واللَّه يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقُبحاً لكم وتَرَحاً" نهج البلاغة ج1 ص69.
وهنا، وإن كانت الآيات والروايات تتحدث عن وحدة المسلمين إلا أن المستفاد منها أهميّة الوحدة على مستوى الأمة التي يجمعها قضية واحدة وهم واحد. ولذا قد يكون المطلوب الوحدة بين المسلمين كما في مواجهة الهجمة الأمريكية الجديدة على الإسلام بحجة محاربة الارهاب، وليس هذا سوى حرب على كل ما هو إسلامي أو على كل من يقف في طريق المشاريع الأمريكية ولو من غير المسلمين الهادفة إلى استعمارٍ حديثٍ للعالم بأسلوب جديد وفكر جديد. وقد يكون المطلوب الوحدة الوطنية بين أفراد الشعب المتعدد الطوائف كالساحة الفلسطينية والساحة اللبنانية اللتين تعيشان حالة المقاومة والجهاد ضد محتلٍّ كريه وخبيث هو العدو الصهيوني. هذا، ولقد لمسنا الآثار الايجابية لهذه الوحدة على الساحة اللبنانية خصوصاً في السنوات الأخيرة بعد عدوان نيسان 1996م، والتي تلاها النصر المبين للمقاومة الإسلامية على المحتل الصهيوني الغاصب. كل هذا يؤكد ما لوحدة الأمة من الآثار العظيمة والنتائج المثمرة لمصلحة الأمة بحيث تكون عاملاً مؤثرّاً وفاعلاً في إحراز النصر بل وتسريعه.
* نماذج من حالات الوحدة وعدمها:
نورد فيما يلي بعض النماذج السلبية والايجابية المعاصرة التي للوحدة وعدمها الأثر البالغ فيها: النماذج السلبية، منها:
1 - تفرّق العرب والمسلمين عن القضية الفلسطينية التي صارت مأساتها في عقدها السادس دون أن يعي العرب والمسلمون عن قصد أو بلا قصد بأن العامل الأساس الذي حال دون عودة الحق إلى أصحابه هو عدم توحّدهم في سبيل هذه القضية كما هو المعلوم من حالهم منذ كارثة فلسطين عام 1948م وإلى أيامنا هذه. ووصل بهم الحال إلى أنهم إذا استنكروا ما يحصل للشعب الفلسطيني لا يتجاوز حناجرهم وقد لا يصل إلى آذانهم في كثير من الأحيان خوفاً من الأسياد الأمريكيين وطمعاً بحطام الحكم والرئاسة والزعامة. وهذا ما أوصل الأمة العربية والإسلامية إلى هذا القهر والخذلان أمام العدو الصهيوني، حيث لم يتّحدوا كمسلمين ولم يتّحدوا كعرب إلى أن لاحت علائم الأمل والرجاء بعودة الكرامة والعزة إلى هذه الأمة من خلال النصر الإلهي الذي حققه مجاهدو المقاومة الإسلامية في لبنان، فتحركت مشاعر الشعوب العربية والإسلامية على أمل أن تتحرك قبضاتهم، وعلى أمل أن تتحرك مشاعر الحكام والزعماء خوفاً من اللَّه لا من أحد آخر.
2 - تفرُّق الفلسطينيين أنفسهم عن قضيتهم التي هي قضية الأمة بعد أن كانوا مُوَحَّدين في بداية عمل المقاومة الفلسطينية في أواسط الستينات مما أعطى للمقاومة آنذاك القوة والعنفوان اللذين أصاب الكيان الصهيوني بالخوف والقلق على مصيره في هذه المنطقة. لكنّ تشتت القلوب واختلاف الأهواء وتحكيم المصالح الخاصة ودخول الأنظمة في الجسم القيادي الفلسطيني زعزع دعائم هذه الوحدة وهدّها فصاروا أحزاباً ومنظمّات كلٌّ يدعو إلى نفسه لا إلى قضيته الكبرى، فضعفوا ووهنوا على حساب أمتهم ووطنهم وأرضهم.
النماذج الايجابية، ومنها أو أهمها ثلاثة:
1 - انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران عام 1979م بقيادة الإمام الراحل السيد روح اللَّه الموسوي الخميني قدس سره، هذه الثورة التي أعادت للأمة نبْض الحياة فيها،وجدّدت فيها دمَ الجهاد والاستشهاد في سبيل الحق والإسلام. وقد كان من عوامل انتصار هذه الثورة الوحدة الشعبية التي تمثلت بالالتفاف الشعبي الكبير الذي قَلَّ نظيره حول قضيتهم وقائدهم الملهم الإمام الخميني قدس سره. وهذا ما جعل العالم أجمع ينذهل ويستسلم أمام جبروت هذا الشعب الذي كسر بوحدته وبقيادته الرشيدة الملهمة قيود الاستعباد الشاهنشاهي الذي دام عشرات السنين، فكان النصر حليفه والظفر حقّه ببركة وحدة القيادة والشعب بعد الإيمان باللَّه تعالى والتوكل عليه.
2 - النصر الكبير بل الفتح المبين الذي خُتمت به الألفية الثانية، وكانت بشرى دخول الألفية الثالثة وفأل خير للأمة، وهو ما تحقق في لبنان على أيدي أبطال كبار ومجاهدين عظام من نصرٍ على عدوٍ أرهب العالم وأرعب العرب والمسلمين طيلة نصف قرن، فإذا به يتهاوى تحت أقدام المجاهدين وصدق فيه قوله تعالى: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ...﴾(الحشر: 14). وقد كان لعامل الوحدة الوطنية بين اللبنانيين الدور البارز في تحقيق هذا النصر وتسريعه، والذي برز جليّاً في حرب نيسان 1996م، وكان الشعب اللبناني حينها كتلة واحدة متراصة وجسداً واحداً كالبنيان المرصوص وراء مقاومته فكان بذلك سدّاً منيعاً ودرعاً واقياً للمقاومة ورجالها من غدرات العدو وعملائه، فحفظها كما حفظته، وأعطته ما يتمنّاه من النصر والحرية لأكثر المناطق المحتلة، ولم يبقَ منها سوى مزارع شبعا وكفرشوبا التي لا تلبث أن تتحرر بإذن اللَّه تعالى بهمة المجاهدين وجِدّهم، وبدعم الأمة وتوحدّها خلفهم.
3 - الانتفاضة الفلسطينية الكبيرة التي اشتعلت نارها في وجه المحتل في أيلول من العام 2000م، ولا تزال مستمرة بتوهُّج وتألّق، وذلك لمَّا وعى الشعب الفلسطيني أنَّ خياره الأوحد هو الجهاد والمقاومة، وحفظ وحدة الصفّ حول القضية الأم بعيداً عن النزاعات الداخلية والاختلافات السياسية. فكان لوحدتهم الأثر الايجابي البالغ في وصول الانتفاضة إلى حالة أزعجت العدو وأربكته وبلغت به حَدَّ القلق والخوف على مصير كيانه اللقيط. نعم، هناك محاولات أمريكية صهيونية وغيرها تحاول شرذمة الصف الفلسطيني وبذر بذور التفرقة فيه على قاعدة فرّق تسد. فالحذر الحذر فإنَّه العدو ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4). وبعد ما تقدَّم يدرك العاقل أنَّ الأمَّة غير الموحَّدة حول قضاياها هي أمّة مهزومة ساقطة، وأنَّ الوحدة من أهم العوامل المؤثرّة في بلوغ النصر وتحقيق الظفر، هذا مضافاً إلى أنَّ فيها رضى الرب وعزّة الأمة.
والحمد للَّه رب العالمين