نسرين إدريس
نهار الجمعة الواقع فيه 8 آذار عام 1985، وعند الساعة الخامسةِ عصراً، وبينما كانت الأخوات المشاركات في صلاة الجمعة يخرجن من مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بئر العبد، دوى انفجار رهيب في محلة بئر العبد شارع الصنوبرة أدى إلى استشهاد 100 شهيد، بينهم 81 من النساء والأطفال.
قامت منذ الصباح الباكر لترتّب المنزل، فيما جلس زوجها يناغي طفلهما البالغ من العمر سبعة أشهر. "ما أجمل مناغاة الصغير والصبحُ لم يزل يتثاءب على جبين الشمس الخجولة..". علا صوتهما بضحكٍ لطيف جعلها تترك ما بيديها لتأتي إليهما تشاركهما الحديث الطفولي، ففي الغدِ سيتوجه زوجها إلى المحاور في الجنوب، وسيشتاق إلى يوسف الصغير كثيراً، ولكنها سرعان ما عادت لتتابع أعمالها المنزلية، بينما بدأ زوجها يهيء صغيره للاستحمام. كانت الحاجة أم محمد تستنكر دوماً على ابنها وزوجته غسل الصغير إذا ما كان الطقسُ بارداً، وها هي الآن بمجرد أن فتحت زوجة ابنها لها الباب، حتى بدأت بتأنيب ولدها بينما أخذت يوسف بين ذراعيها لتدفئه..
"الطقس بارد جداً في الخارج".. أخذ الطفل من بين يديها بهدوء وهو يبرر لها أن المدفأة لطفت جو الغرفة ولن يصيب يوسف أي مكروه، فاليوم هو الجمعة، ومذ ولد يوسف وأبوه يغسله غسل الجمعة.. تمتمت أمه بضع كلماتٍ تعود على سماعها: "منذ أن قامت الثورة الإسلامية في إيران تغيرت أمور الدين.. حتى كأن الدين الذي جاء به الخميني دين جديد.. في الماضي كان كل شيء مختلفاً..".
ألا يعجبك دينُ الإمام الخميني؟ سألتها زوجة ابنها. بلى.. ولكن لا يعجبني ما تعرّضون له طفلي الصغير.. قال لها ابنها أبو يوسف وهو يضحك: هذا الدين دين محمد صلى الله عليه وآله.. والإمام الخميني يطرحُ الإسلام الأصيل.. آه يا أمي كم نحن بحاجة لمراجعة تفاصيل ديننا من جديد.. جاء الحاج بيوسف وقد لُفّ بمنشفةٍ وأعطاه لوالدته التي بمجرد أن لامسته بدأت تغني له الأغنيات التي تعود عليها، وراحت تلبسه ثيابه وهو يضحكُ ضحكات ملائكية.. حملته ونظرت في عينيه قائلةً له: هل ستعذب أمك غداً عندما تكبر كما يفعل بي والدك الآن؟ اقترب ابنها منها: أتمنى الموت إن كنتُ أعذبك يا حبيبة قلبي.. تركت يوسف وحضنت ولدها: ابعد اللَّه عنك الموت.. وهل غير خوفي عليك منه ما يتعبني..
كلما ذهبت إلى المحاور سكن قلبي تيك المحاور.. وأرق القلقُ جفنيَّ.. ولم يا أماه.. فالشهادة أمنيةُ العاشقين... ولكن.. أتدري كم أن الفراق صعب.. سأفارقك إلى حيثُ الزهراء عليها السلام.. سينسيني لقائي بها فراق أحبائي هنا.. ولكن سأنتظرك على باب الجنة.. بكت الحاجة أم محمد وأخذت يوسف بين ذراعيها: أتيتمه وهو صغير؟! اللَّه أعلم.. جاءت أم يوسف وقد هيأت الفطور، وجلسوا ليتناولوه سوياً.. فبادرت أم محمد للطلب من زوجة ابنها أن تُبقي يوسف عندها عندما تتوجه بعد الظهر إلى مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بئر العبد لأداء صلاة الجماعة والاستماع إلى المحاضرة..
فقاطعها ولدها: لا.. على يوسف أن يتعود ارتياد المسجد كما تعود على غسل الجمعة.؟
أم محمد: ولكن ألا يتعبك يا بُنيتي؟..
أم يوسف: قليلاً.. ولكنه تعود على مرافقتي إلى هناك..
بعد الفطور بدأت أم يوسف بترتيب حقيبة زوجها، فيما غفا يوسف على يد والده الذي استلقى بالقرب منه لينظر إلى وجهه الملائكي.. لستُ أدري لماذا كلما نظرتُ إلى يوسف شعرتُ بحزنٍ يتسرب إلى داخلي.. قال أبو يوسف لأمه.. استعذ باللَّه، ودعه يغفو الآن.. قالت ذلك فيما فتحت الباب وهي تؤكد لأبي يوسف أنها تنتظره بعد الظهر مع ولده في منزلها.. انتهت أم يوسف من ترتيب الحقيبة، وجلستْ تسامر زوجها الذي كلما نظر إليها أشاح بوجهه عنها.. فلاحظت عليه ذلك، وسألته عن سبب ذلك، فأجابها: في قلبي حزنٌ عميق لا أدري ما سببه، ربما هو شعور الشهادة.. على الرغم أني كنتُ أظن أن سعادة عارمة تعرشُ في فؤاد المرء إذا ظنّ أن ساعته حانت.. ولكن لماذا تقول هكذا.. انظري إلى يوسف.. إن وجهه يتألقُ بنور غريب.. هذا الدفءُ، يا زوجي العزيز، لون خديه باحمرارٍ جميل.. لا.. فالدفء لا يُشعرُ المحب بصقيعٍ ووحشة.. بقي أبو يوسف يتنقل بضيقٍ في المنزل حتى حان موعد صلاة الظهر.. هيأ نفسه وتوجه إلى مسجد بئر العبد.. فقط رفاقه استطاعوا أن يهدئوا قليلاً من توتره الذي أزعجه كثيراً.. تفرّق المصلون، وسارع إلى المنزل ليأتي بزوجته وطفله إلى المسجد، فصلاة الجماعة للأخوات لن تتأخر.
حمل أبو يوسف طفله الذي أبى أن يترك لعبته المفضلة، وهي سيارة حمراء صغيرة، في المنزل فحضنها طوال الطريق خوفاً من أن تسقط منه، وسار في طريق تمنى لو أنها تطول، وإلى جانبه زوجته بعباءتها السوداء.. وقف على زاوية الشارع وأعطاها يوسف وهو يضحك له.. انتبهي إليه.. قالها بصوتٍ مرتجف. ما بك يا عزيزي؟! إنها المرة الأولى التي أراك فيها هكذا.. هل هناك ما تخفيه عنّي.. لا.. إنه خوفٌ لا أجدُ له عنواناً ليريحني.. اذهب إلى منزل ذويك ونمْ قليلاً فأنت بحاجة للراحة.. وخذ معك يوسف إذا أردت فوالدتك ستُسر كثيراً إذا رأته،، هيا، إن النسوة قد سبقنك، ولا أريدُ أن نبقى هنا مطولاً.. سأعود لاصطحابك إن شاء اللَّه..
سألاقيكَ في منزل والديك.. ولن يتعبني يوسف في هذه المسافة القصيرة.. أرجوك أن ترتاح، ولن أتأخر عليك.. اقترب وجههُ من يوسف وقبله قبلةً طويلة.. ثم وقف ليلوح له فيما الصغير يتلفت عليه من على يد أمه التي وصلت إلى المسجد واختفت بين زحمة النساء.. مشى قليلاً فلاحت له من بعيد شيبةُ بائع القهوة الذي تعوّد أن يشرب القهوة من يديه ويجلس عنده ليتسامرا.. اقترب منه وقد هيأ البائع له فنجانه المفضل. أخذ فنجان القهوة وحاول أن يتحدث مع صديقه العجوز الذي لا يزال يعمل بكدٍ لتأمين قوت عياله.. لكن السكوت المطبق على شفتيه جعله يعتذر إلى صديقه ويسارع للوصول إلى منزل ذويه..
كان السيّدُ يحاضر ويصلي ويجيب على الأسئلة.. ويوسف غفا على يد والدته التي مشت ببطء إلى خارج المسجد ولم يزل يحضنُ سيارته الجميلة.. كانت تسير تحمله وتشقُّ طريقها بين جموعٍ من الناس الغفيرة.. وزوجها الذي حاول طوال فترة تواجدها في المسجد أن يغفو قليلاً ولم يستطع، غفتْ عينه دقيقةً واحدة وفتحها مسرعاً إثر صوت انفجار رهيب هز منطقة بئر العبد كلها.. هرع إلى الخارج ليستخبر الذي جرى، فدوى انفجار آخر.. ركض مع الراكضين وصوت سيارات الإسعافات ضجّ في المنطقة.. وقفَ على الشارع كان منظراً رهيباً جثثٌ وأشلاء مشوهة أكثرها من النساء والأطفال، وجرحى يصرخون لمساعدتهم، وحرائقُ شبت في بعض الأبنية.. لكن المشهد الفظيع انتهى عندما لم يستطع أن يجد زوجته وطفله بين الناس المذعورين، ورأى من بعيد صديقه بائع القهوة العجوز وقد مزقت الشظايا جسده وعربته تحولت إلى فحمة سوداء ذائبة..
خفق قلبه بسرعة وتصبب العرقُ منه كأنه نذير حمى قاتلة، لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه، ووضع كمامةً ليساعد في نقل الجرحى وانتشال الجثث.. مرت ساعاتٍ طويلة وهو يلتفتُ يمنة ويسرة بحثاً عن زوجته وطفله الصغير.. مدّ يده ليرفع جثةً محروقة فوجدها تحضنُ طفلاً يُخبىء في حضنه سيارةً حمراء صغيرة..