نسرين إدريس
الاسم: حسين عاطف عيساوي
اسم الأم: سعاد نادي
محل وتاريخ الولادة: جويا 24 / 08 / 1980
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 20
مكان وتاريخ الاستشهاد: موقع البياضة 18 / 05 / 2000
تقفُ الأيام على ناصية الزمن، تعبرُ سويعاتها بين الوجوه، تنتظره عساه يعود مع الراجعين.. تمدُّ له على أرصفة الرجوع ورود الشوق وهي تدري أنه لن يعود.. تحاكيه بكلمات أنس لم يصرعها جفاءُ البعد، وهي تعلم أنه لن يردّ جواباً.. لكنها لا تملُّ.. فذكراه تشعلُ جذوة الأمل في أنه قد يعود إليها؛ ربما طفلاً يلعب بساحاتها وشوارعها، يعبرُ بين الطرقات بشقاوته المعهودة ليرسم بضحكاته الحياة على جنباتها.. أو ربما فتىً يافعاً يمشي الهوينى بثياب الكشافة إلى المسجد.. أو حتى مجاهداً يحملُ حقيبته متوجهاً إلى عاملة..
في المرة الأخيرة التي غادرها عاد محملاً على أكتاف رفاقه أوفياء العهد وقد نبتت شقائق النعمان في جراحات جسده.. لن تستطيع الغبيري أن تنسى "حسين عيساوي"، فنسيانه بوابةٌ مشرعةٌ لتذكره أكثر.. عندما ولد "حسين" مع أخيه التوأم "حسن" في محلة بئر العبد، أنزل اللَّه تعالى مائدة الرزق على عائلته، وتيسرت سبل الخير إليهم، وانتقلوا إلى الغبيري لينشأ حسين هناك، ولتكون هذه المنطقة شاهدةً عليه.. كانت طفولته سلسلةً من الحوادث التي نجا خلالها من الموت بلطفٍ إلهي؛ فعند الاجتياح الإسرائيلي أصابت قذيفة السرير الذي ينام عليه بعد مغادرته بدقائق، وعندما قصفت "نيو جرسي" كان حسين وأخوه حسن مع والدته يبيعون السكاكر في منطقة الرملة البيضاء ولم تستطع أن تهرب بهما، وعندما هزّ انفجار عنيف منطقة تلة الخياط كان حسين بالقرب منه عند أقاربه.. وفي كل مرة كان ينجو حسين؛ ينجو حتى يموت بطلاً..
مذ بلغ سبع سنوات بدأ يُصلي، والتحق بكشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه فوج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وتعرف هناك على رفاقٍ ساروا معه طريق ذات الشوكة، وصقلت الكشافة في نفوسهم عزيمة الرجال وحبّ الجهاد، فسلكَ معهم طريقاً لا يوفق لسلوكها إلا من أتى اللَّه بقلب سليم.. من الكشافة إلى مسجد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى المدرسة، هكذا رأت الغبيري ربيبها يكبر، وعندما أنهى الصف الخامس الابتدائي ترك المدرسة ليساعد والديه في العمل، ثم ما لبث أن بدأ يتعلم مهنة ميكانيك السيارات، إزاء ذلك، لم يعد حسين الطفل الذي تتعب من لعبه ومقالبه أحياء الغبيري، بل صار فتىً قرر أن يلتحق بركب الحسين عليه السلام فهيأ نفسه لذلك..
في الرابعة عشر من عمره كانت المرابطة الأولى له على ثغور الجهاد، وقد فاجأ الأخوة في المحور بروحه وشجاعته وإقدامه على الرغم من أن مشاركة المرء بعمل عسكري لأول مرة يُلقي في نفسه شيئاً من الرهبة مهما كان شوقه كبيراً، غير أن عشق حسين للجهاد بدد غيوم الارتباك، فكان يؤدي الصلاة وهو يحمل عتاد المقاتل كاملة، فسأله أحد الأخوة عن سبب تصرفه ذلك مع غير اضطرار، فكان جوابه أنه سيربي نفسه منذ هذه اللحظات ليصبحَ مقاوماً قوياً.. وفعلاً، لقد دأب حسين على تدريب نفسه، والتحق بدورات عسكرية أهلته ليكون ضمن عداد القوة الخاصة، وقد حاول والده في بداية الأمر أن يمنعه من الالتحاق بالمحاور، إلا أنه سرعان ما اقتنع أن ولده الذي بقي حتى عمر الثانية عشرة يغفو في حضنه قد كبر وأصبح شاباً واعياً ليحدد طريقه، وأدرك أنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء يثني به ولده عن الجهاد خلا رفع كفيه نحو السماء ليدعو اللَّه أن يوفقه وينصره.. عندما يعود حسين من المحور سرعان ما يبادر للالتحاق بمحور آخر.. فقد كان يعشقُ خدمة المجاهدين ويهوى الجلوس بينهم، ولم تَبرد همته في أداء أي تكليف صغيراً كان أم كبيراً، ويصرُّ في عمله أن يكون الأول دائماً، وكيفما تحرك يغني الشهادة ويسعى إليها سعي حبيبٍ لحبيبته.. عندما عاد من الجمهورية الإسلامية، أحضر هدايا لأهله وأقاربه لم تخطر على بالِ أحدٍ منهم، فكلما فتح أحدهم هديته وجد كفناً بداخلها، ولكنْ أيضاً ما لم يخطر على بالِ أحدٍ منهم، أن حسيناً سيكون أول من يُلفُ بالكفن..
في منتصف الليل عندما تهدأ النفوس، يجلسُ وحيداً في فناء الدار يبكي ويدعو بالدعاء الذي كان دوماً يدعو به السيد عباس الموسوي رضي الله عنه: "فأطالبك أن ترزقني شهادةً مُطهرة أنا اخترتها بنفسي كفارة عن ذنبي شهادةً قلّ نظيرها يتفتت فيها جسدي وتنالُ كل جارحة من جوارحي ما تستحقه من القصاص والعقوبة".. وفي الفترة الأخيرة من حياته صار يؤدي صلاته في زاوية محددة من زوايا مسجد الإمام زين العابدين عليه السلام الذي تعود على الصلاة فيه منذ صغره، فلمّا سأله رفيقه عن ذلك، قال له: "غداً عندما استشهد ستشيرون إلى هذه الزاوية وتقولون هنا كان يصلي الشهيد حسين".. لم تزل إلى الآن تلك الزاوية محراباً لرفاق حسين.. "عمار حمود" صديق حسين في الكشافة وفي المحاور، لم يفترقا إلا وقد فجّر عمار جسده في عملية استشهادية بتاريخ 30 12 1999، كان حسين قد دعاه إلى الإفطار قبل فترة قصيرة لكنّ ظروفاً اجتماعية طرأت على والدة حسين جعلت عماراً يؤجل الإفطار، لتكون الدعوة موجهة من قبله ولكن ليس إلى إفطار، بل إلى لقاءٍ في الجنان بالقرب من الرسول صلى الله عليه وآله والزهراء عليها السلام وأمير المؤمنين... ومن توجه له مثل هذه الدعوة ويرفض... وحوّل حسين نفسه إلى ضيف في الدنيا؛ في المنزل الذي يملأه حركةً وحياةً، بين الجيران الذين ألفوا صوته وتعودوا على ضجيجه المليء بحيوية الشباب، بين رفاقه الذين يسابقون بعضهم لنيل الشهادة، صار يشعر بأنه ظل ثقيل لا مكان له.. وكلما مرّ بالقرب من روضة الشهيدين ليذهب إلى المسجد، وقف أمام قبور الشهداء ليجدهم يأنسون ببعضهم، كل واحد منهم يرسل بسمته إليه ليستعجلوه أكثر..
"أخاف أن لا يبقى لي مكان بين قبور الشهداء.. هذا آخر مكان"، قال ذلك لأمه وهو يقف في بقعةٍ من الروضة بين قبور الشهداء وسكين الحسرة يمزق قلبه.. ورأت أمه الطيور الوافدة إلى جبينه تغادر ربيع عمره، لا من صقيع تخافه ولكن أخبرتها الملائكة أن عصافيرَ الجنة بانتظاره.. كانت والدة حسين الحاجة "أم علي" توضب حقيبة ابنها كلما حان وقتُ عمله.. لكن هذه المرة كانت ترشُّ بين الثياب دعاءً أن يعود إليها سالماً.. في كل مرة يطلبُ منها أن تدعو له بالشهادة وتفعل.. ودوماً كانت تنتظرُ أن يزفوه شهيداً.. لكنه يعود ويطل عليها من بعيد ببسمته الساحرة ووجهه الملائكي ليقبّل يديها ويلقي رأسه على حضنها.. غير أن هذه المرة أحسّت أن رحيل حبيبها قد أزف.. حمل حسين حقيبته وغادر المنزل إلى محل السكاكر حيث يودع أهله.. وقف على الباب شاباً تُسبّحُ العين اللَّه حين تراه، ودّع أهله وخرج مسرعاً، غير أن نحيب صوت والدته وهي تناديه أعاده.. وقف أمامها نظر إليها وبدأ يخطو ببطءٍ نحوها حضنته وشمته كأنها تعطيه وديعة عمرها وحبها..
عندما التحق حسين بالمحاور رأى في منامه أن شيخاً جاء وأوقظه من نومه ليرافقه إلى "الحج"، فضحك حسين وقال له إنه لا يملك ثياباً بيضاء ليحج بها، فأجابه الشيخ إنه جلب له ثياباً خضراء ليحج بها بعد ثلاثة أيام.. استيقظ حسين وبدأ يُهيىء نفسه لحجٍ عظيم.. بعد ثلاثة أيام؛ لبس القنابل ثياب إحرام لحجِ مقاتل.. سعى قلبه بين البيادر والسهول ليرجم اليهود برصاصٍ يزغردُ للحرية.. كان الاحتلال الإسرائيلي قد أنجز 80% من نقل معداته وأجهزته العسكرية لانسحابٍ بطيء يحفظُ ماء الوجه.. لكنّ المقاومة الإسلامية أبت إلا أن تُذل الصهاينة أكثر فأكثر، فشنت هجماتٍ على 27 موقعاً كان أبرزها اقتحام موقع البياضة التابع للفوج 81 في ميليشيا العملاء، وقد استولى المجاهدون على الموقع وأبادوا من فيه ورفعوا رايات المقاومة فوق دشمه.
في هذه الأثناء كان الأهالي يبتهجون لهذا الإنجاز العظيم، والنسوة تزغردُ وتوزع الحلوى.. لكن "أم علي" هي الوحيدة التي لم تستطع أن تفرح.. كانت تنتظرُ أن يأتي حسين.. وراحت تسأل عن العريس الذي أضرم في فؤادها نار اللوعة.. لم تنتظر أن يخبروها بذلك؟ فقلبُ الأم وحده يتلو أصدق الأنباء.. عاد الحاج حسين شهيداً ليُدفن في روضة الشهيدين في البقعة التي وقف فيها ليبثَّ خوفه من ضيق المكان، ولترتسم بسمته بين أقرانه الشهداء عريساً في الجنان..
* من وصيته:
إخواني المجاهدين وأنتم الأغنياء عن الوصية، ولكن أذكركم كما أذكر نفسي أن نحافظ على هذه المقاومة التي كتبت بالدماء وترسخت بالموقف والإرادة والقرار الصادق. وكما أوصانا السيّد عباس الموسوي رحمه اللَّه أن نحافظ عليها وذلك بالاستمرار في مواجهة أعداء الرسل والإنسان، وأن نحول لبنان إلى مقبرة للمحتل الإسرائيلي كما أوصانا الإمام الخميني قدّس سرّه..
أوصيكم بالتمسك بخط ولاية الفقيه الذي هو امتداد لولاية الأئمة والرسل بالطاعة المطلقة لتلميذ الإمام الشمس التي تسطع في الظلام الإمام السيّد علي الخامنئي الذي ارتضته الأمة عبر ممثليها من أهل الحل والعقد قائداً لها بعد القائد المؤسس رضوان اللَّه عليه وحشره اللَّه مع أجداده الطاهرين..
والدي العزيز: أرجو أن ترضى عني وتسامحني وأن تفتخر بشهادتي لأنه لا يلقاها إلا الذين صبروا وإلا كل ذي حظٍ عظيم.
والدتي الحبيبة: أوصيكِ أن لا تحزني وأن تجعلي بكاءك على مصاب الزهراء وأهل البيت..