لدى قيامنا بنزهة في الحقل وتأملنا سطح الأرض نلاحظ أن التربة تبدأ، من حين إلى آخر، بالتحرك ويخرج من جوفها حشرات وحيوانات صغيرة. ومن المخلوقات الصغيرة قد يخرج من الفجوة حشرة غريبة الشكل، جسمها مغطى بشعيرات حريرية المنظر وشبيهة بالأبر. وطرافة هذه الحشرة الصغيرة هي في شكل ذيلها الذي يشبه الفرشاة، وهي غير معروفة إلا من قبل بعض العلماء الذين أطلقوا عليها اسم "لوفوبروكتوس نيتيدوس". وهي من "كثيرات الأرجل" التي لا يتعدى طولها 4 مليمترات.
* عمل جيولوجي بطيء
إن القشرة الخارجية من الأرض هي عبارة عن طبقة ترابية تبلغ سماكتها بضعة عشر سنتيمتراً، وبعدها تأتي طبقة الرمال والصلصال والصخور. وهذه القشرة الخارجية هي في غاية الأهمية لأنها أساس حياة النباتات الأرضية كلها وبالتالي أساس كل حياة فوق الأرض. وعمر الطبقة الترابية هذه يصل إلى مئات الملايين من السنين، وقد ظهرت بعد تكوّن الصخور. فالتراب هو مزيج من بقايا النبات والرمل والصلصال والطين ومواد أخرى. إنه نتيجة عمل طويل لأجهزة عضوية عدة: جراثيم، حشرات مجهرية، ديدان الأرض، دعاميص الحشرات وسواها. فكل حفنة من التراب تعجّ إذاً بالحياة الكثيفة والحركة المنتجة. وفي الممرات الجوفية التي تتقاطع، والفجوات الدقيقة، والشقوق المجهرية، والمسام الترابية، تعيش "طغمة" متعددة ومتنوعة من المخلوقات الحية. وأنواع مختلفة من النباتات. وكل سنتيمتر مكعب من التراب يحوي أكثر من مليار جرثومية، ونصف مليون "أحادية الخلية"، وآلاف الديدان الصغيرة، ومئات الحشرات من القراديات وكثيرات الأرجل. وتمدّ النباتات الخضراء جذورها في قلب التراب حيث تعيش أنواع من النباتات المجهرية، تنتمي بصورة خاصة إلى فئة الطفيليات والطحالب، فتمضي في جوف الأرض حياة كاملة.
* توازن الحياة في جوف الأرض
تتوازن الحياة النباتية والحيوانية بشكل طبيعي، تحت التراب وفي الأوساط الحياتية كلها، طالما أنه لا يدخل عنصر غريب يسبب خللاً في هذا التوازن، فالنباتات التي تدخل جذورها في الأرض وترمي بقاياها بكثرة مستمرة ورق، خشب... تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قسم كبير من الحيوانات والحشرات الجوفية (نحو 80%). والواقع أن الأنواع التي تستهلك البقايا النباتية تكون غذاء لأنواع أخرى خاتلة وأكبر منها حجماً من ذوات كثيرات الأرجل وهذه بدورها تشكل غذاء لحيوانات جوفية قوية كالخلد مثلاً. من الأنواع التي تتغذى ببقايا النباتات هناك دودة الأرض LOMBRICوهي ذات أنواع مختلفة. هذه الديدان التي تنتمي إلى فصيلة الحلقيات ANNELIDE تستطيع التنقل عن طريق تقليص وامتداد الحلقات التي تؤلف جسمها. والفضلات التي تتغذى بها دودة الأرض تكون ممزوجة بالتراب الذي، بعدما يجتاز الأمعاء، تقذفه الدودة خارجاً فتتغذى الأرض بهذا السماد. ومن بين الدويبات الخاتلة تحتل "كثيرات الأرجل" بأنواعها المرتبة الأولى، وهي تعرف لدى الناس باسم "ذوات الألف قدم". بعض هذه الحشرات تنتقل بسرعة مثل "أم أربع وأربعين"SCOLOPENDRE، بينما تنتقل أنواع أخرى منها ببطء كحشرة "الشبثان"GEOPHILE.
* "عمالقة" جوف الأرض
إن الأنواع التي تحدثنا عنها سابقاً تنتمي غالبيتها إلى مجموعة اللافقريات، وهي إجمالاً حيوانات صغيرة. إلا أن هناك حيوانات أخرى كثيرة، من مجموعة الفقريات، تعيش في قلب التراب، وتعتبر نسبياً من عمالقة جوف الأرض. ومن الحيوانات التي تعيش في المناطق المعتدلة، يمكن ذكر اللبونة منها وخاصة القوارض واكلات الحشرات كالخلد. أما المناطق الاستوائية ففيها حيوانات لبونة أخرى، من الفئة التي لا أسنان لها EDENTES كخلد التاتو المدرّع TAUPE TATOU، ومن الجرابيات كالخلد الجرابي، ومن الضفدعيات التي يبدو جسمها شبيهاً بالحية كالضفدع الثعباني CECILIE، ومن الزواحف كحية الرمال التي تعيش في المناطق الشديدة الحرارة وفي بعض أنحاء أوروبا الشرقية. ومما يثير الدهشة والاستغراب إن بعض الطيور والأسماك تعيش، في قسم من حياتها، داخل التراب. وهذه الحالات تعتبر من دون شك نادرة الوجود.
* الحياة البطيئة داخل التربة
هناك أنواع كثيرة من الحيوانات التي تعيش كل حياتها في قلب التراب، ولكنها تمضي فيه فترات محددة. وهذه الحالة تنطبق على أنواع عدة تلجأ إلى جوف الأرض لتحتمي من الشتاء أو من الصيف وتعيش حياة بطيئة. ولا شك في أن الوسط الترابي يمتاز بالثبات أكثر من الوسط الخارجي المتقلب. وهذا يعد وضعاً مثالياً يسمح للحيوانات بالهرب من برد الشتاء القارس أو من حرّ الصيف الشديد. هناك أنواع كثيرة من الحيوانات، ولا سيما الحشرات، تقضي فترة النمو والتطور داخل التراب، وعندما تبلغ مرحلة النضج تخرج إلى سطح الأرض. وهذه مثلاً حال زيز الحصاد، في المقابل فان بعض أنواع الفراشات لا تمضي في لب الأرض إلا وقتاً وجيزاً. والواقع أن الدعاميص الحقيقية تكون فوق النباتات وان الفراشات الناضجة تحوم حول الأزهار، وأمّا CHRYSALIDE وهي تمثل المرحلة المتوسطة بين الدعموصة والفراشة فإنها تنتظر في جوف التراب اكتمال تطورها ونموّها.
* شقوق ومغاور مصغرة
الأوساط الجوفية غنية بالكهوف والمغاور الصغيرة، وفيها تعيش حيوانات لها خصائصها المميّزة، وتكون عمياء في الغالب. ونجد أحياناً مجموعة تنتمي إلى صنف واحد وتعيش داخل شقوق في أرض صلبة. والجماعة التي تعيش في مثل هذه الشقوق تكون قريبة من تلك التي تعيش فوق سطح الأرض في أوكار ومغاور صغيرة. حتى أن بعضاً منها، كهذه الحشرة التي تنتمي إلى مغمدات الأجنحة من فصيلة السرطانيات، يمكنها أن تعيش في وسطين مختلفين من دون أن يؤثر ذلك على حياتها.