آية اللَّه الشهيد مرتضى مطهري
إنَّ فلسفة الوجود المقدس لشخص مثل الإمام زين العابدين عليه السلام، هي تجسيد حقيقة الإسلام عملياً، وهذا من الألطاف الإلهية الكبيرة بالنسبة للبشر. إذ كيف يمكن للناس أن يفهموا الأبعاد المعنوية لهذا الدين العظيم، لو لم يجعل اللَّه تعالى له حملة تشرّب الإيمان به في نفوسهم، وخالط لحمهم ودمهم، فأصبح الإسلام ينطق بألسنتهم، ويعمل بأيديهم، ويسعى بأقدامهم؟
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كرّس القسم الأعظم من جهوده، في فترة دعوته المباركة، من أجل أن لا يغادر هذه الحياة إلاّ وقد ربّى وأعدّ من يكون على مستوى حمل الرسالة من بعده، وهكذا نرى كيف أنه صلى الله عليه وآله كان يعكف على تربية علي بن أبي طالب عليه السلام بيده، ويضعه على عينه، ويزقّه العلم والإيمان زقاً، وكان هذا أيضاً هو شأن سائر أوصياء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في إعداد من يأتي بعدهم...
* عبادة الإمام عليه السلام:
إنَّ اللَّه سبحانه وتعالى شرع دين الإسلام لكي يبقى خالداً إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلاّ إذا توالى على حمله وصيانته، رجال استثنائيون كالإمام زين العابدين عليه السلام مثلاً، والذي كان عندما يقف للصلاة فإنه لا يتوجه ببدنه فقط إلى الكعبة، بينما يتجول فكره في مكان آخر. بل كان يتوجه بكل كيانه ووجوده، ويكون وقوفه للصلاة، استعداداً للطيران في عالم الملكوت، والتحليق باتجاه اللَّه سبحانه... وعندما كان لسانه يتمتم بالذكر، فقد كان اللَّه هو الذي ينطق، ويتكلم، عبر لسانه. وعندما كان الإنسان يرى علي بن الحسين عليه السلام في صلاته، فكأنما كان يرى النبي صلى الله عليه وآله في محراب عبادته، في الثلث الأخير من الليل، أو في جوف (غار حراء)(1).
كان الإمام زين العابدين عليه السلام ذات ليلة مشغولاً بالصلاة والعبادة، فسقط في أثناء ذلك أحد أطفاله على مقربة منه، وأصيب بكسر في عظام يده. فلما لاحظ أهل الدار عدم وجود ردّ فعل للإمام بالنسبة لما حدث، ذهبوا وأحضروا مجبراً داوى يد الطفل وربطها، وكان الطفل في خلال كل ذلك يصرخ صراخاً شديداً، وبعد أن أنهى الطبيب عمله، ارتاح الطفل ونام، وفي الصباح رأى الإمام يد طفله المجبّرة، فسأل: ما الخبر، فقصوا عليه ما حدث، وتبيّن أنه عليه السلام كان يمرّ في صلاته بحالة جذبة إلهية، وكانت روحه معلقة بعزّ القدس الرّباني، بحيث أن صوت صراخ طفله، وضجيج أهل داره، لم يصل إلى أذنيه أصلاً، فلم ينتبه لما كان يجري من حوله(2)!
* رسول الرحمة والمحّبة:
وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يمثل في المجتمع دور رسول الرحمة والمحبة، فكان يمشي في طرقات المدينة، وعندما يرى إنساناً وحيداً لا ظهير له، أو غريباً منقطعاً عن أهله ووطنه، أو فقيراً محتاجاً، أو مسكيناً معدماً ومن أشبه من أولئك الضعفاء الحال في المجتمع، والذين لم يكن الآخرون يكترثون لهم، ولا يلقون إليهم بالاً كان يلاطفه، ويواسيه، ويأخذه إلى بيته(3). ومرّ عليه السلام ذات يوم بجماعة من المصابين بمرض الجذام(4)، وكان الناس يفرّون منهم خشية العدوى، فدعاهم إلى بيته، وهناك أخذ يقوم على خدمتهم، وتمريضهم، والتخفيف من آلامهم، لأنهم مهما يكن من أمر فهم عباد اللَّه، وليس من الصحيح إهمالهم(5). لقد كان ببيت الإمام زين العابدين عليه السلام في الواقع بيت اليتامى، والمساكين، والملهوفين.
* خدمة قوافل الحجاج:
وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يترصد قوافل الحجيج القادمة من أماكن بعيدة مارّة بالمدينة، ويلتحق بإحداها بعنوان غريب يريد أن يعمل خادماً للحجاج، وكانت الرحلة على ظهور الخيل والجمال آنذاك، تستغرق عشرة أيام، أو أكثر، يظل الإمام عليه السلام فيها عاكفاً على خدمة الحجاج والمسافرين، وتلبية طلباتهم وأوامرهم. وربما اصطدمت بعض القوافل التي كان يرافقها الإمام في الطريق بمن يعرف شخصه، فيذهل من هول ما يرى، ويسأل أهل القافلة: من هذا الذي جلبتموه معكم ليخدمكم في الطريق؟ فيقولون: لا نعرفه، وإنما هو شاب طيّب صادفناه في المدينة وعرض علينا الخدمة فقبلنا. فيقول: لو كنتم تعرفون من هذا لما اتخذتموه خادماً توجهون إليه الأوامر والنواهي... إنّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، إنّه ابن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. وعندها كان يهرع أهل القافلة إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، فينكبُّون يقبِّلون يديه ورجليه، ويقولون: يا بن رسول اللَّه ادع لنا اللَّه أن لا يعذبنا يوم القيامة على جسارتنا، وسوء أدبنا بحقك، فنحن الذين يجب أن نقوم بخدمتك وإطاعة أوامرك. فيقول عليه السلام: لقد جرّبت ذلك سابقاً، فكلما سافرت مع قافلة يعرفونني فإنهم لا يدعونني أقوم بخدمتهم. ولذا فأنا أرغب دائماً أن أسافر مع قافلة لا يعرفني أحد منهم، حتى أتمكن أن أحصل على سعادة خدمة المسلمين ورفقاء الطريق(6).
* دعاء الإمام عليه السلام وبكاؤه:
لم تسنح لعلي بن الحسين عليه السلام فرصة نظير ما سنحت لوالده أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام الذي جاهد في سبيل اللَّه بالسيف، وفاز بالشهادة المصطبغة بالدم الأحمر... وكذلك لم تسنح له فرصة نظير ما سنحت لحفيده الإمام الصادق عليه السلام الذي وجد الأجواء المناسبة للقيام بالجهاد العلمي، فأسس المدارس والحوازات العلمية، ونشر العلوم الدينية، وأحيا الفكر الإسلامي... إلاّ أن الذي يريد أن يجاهد بصدق ويخدم الإسلام بجدّ، فإنَّ كل الظروف فرصة بالنسبة له، وغاية ما في الأمر أن شكل الفرص يتفاوت من ظرف إلى ظرف.
لقد كانت الظروف السياسية في زمان الإمام زين العابدين عليه السلام محكومة بالكبت والإرهاب، وكان النظام الأموي آنذاك متشدداً غاية التشدد مع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، حتى إنهم فرضوا على الإمام في فترة الإقامة الجبرية في بيته، وهكذا لم يجد الإمام زين العابدين عليه السلام أي فرصة للتحرك والاتصال بشيعته وأنصاره. ولكنه لم يقعد عن الجهاد، ولم يتخلّ عن مسؤوليته تجاه الدين، كما تصور البعض ذلك، بل اختار طريقاً للجهاد يتلاءم مع ظروف عهده، فاتخذ من الدعاء والبكاء وسيلة لخدمة الإسلام، ومقاومة الظالمين. وكانت أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام(7) بالإضافة إلى ما فيها من جنبة المناجاة مع الخالق، والتضرع إليه مدرسة تحوي المعارف والعقائد الإسلامية، وفلسفة الحياة، والفضائل الأخلاقية، وما إلى ذلك من المواضيع التي حاول الأمويون بث ما يضادها في المجتمع الإسلامي.
وكان عليه السلام يضمّن أدعيته رسائل خفية موجهة إلى شيعته، لا يفهمها جهاز مراقبة النظام الحاكم وهي ما يشابه نظام الشيفرة في زماننا الحاضر يدعو فيها شيعته إلى مقاومة الظالمين، وعدم السكوت على ظلمهم. وكان عليه السلام يتخذ من كل مناسبة أو مسألة تذكر بواقعة الطف بكربلاء فرصة للبكاء، وكان يكثر من البكاء حتى إنه عليه السلام كان لا يشرب الماء عندما يؤتى به حتى تسيل دموعه الشريفة على لحيته، وتتساقط في إناء الشرب الموضوع أمامه. وكان من خلال بكائه ونواحه، يعمل على إحياء ذكرى ثورة والده أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام، وكان دائماً يذّكر الناس بأسباب ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وقيامه من جهة، ومن هم الذين حاربوه وقتلوه من جهة أخرى.
لقد كان النظام الأموي يسعى جاهداً لتغطية أخبار ثورة الطف ووقائعها، ورشّ رماد النسيان فوقها، لأنهم كانوا يخافون أشد الخوف من ظاهرة حب الشهادة التي بذرها الإمام الحسين عليه السلام في نفوس المؤمنين. ولكن الإمام زين العابدين عليه السلام استطاع بسلاح الدموع أن ينتصر على كل أسلحتهم... ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(8). وبكى علي بن الحسين عليه السلام، عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول اللَّه، إني أخاف أن تكون من الهالكين، قال: "إنما أشكو بثيّ وحزني إلى اللَّه، وأعلم من اللَّه ما لا تعلمون" إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة. وفي رواية: أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فقال له: "ويحك إنَّ يعقوب عليه السلام، كان له إثنا عشر ابناً، فغيب اللَّه واحداً منهم، فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي، وأخي، وعمي، وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني"(9)؟!.
(1) غار حراء، هو غار في جبل حراء، كان النبي صلى الله عليه وآله يتحنث فيه قبل النبوة (ياقوت).
(2) عوالم العلوم (الإمام علي بن الحسين)، ص130.
(3) المصدر نفسه، ص143، البحار: ج46، ص62.
(4) الجذام: يستفاد من (اللسان)، مادة (جذم) أنه داء يصيب الجلد فيتقرح. وعرفه صاحب (اللسان) بقوله: "والجذام من الداء: معروف لتجذم الأصابع وتقطعها، وقال الفيروزآبادي: المجذوم: المقطوع اليد، والذاهب الأنامل (قاوس).
(5) عوالم العلوم (الإمام علي بن الحسين)، ص144.
(6) عوالم العلوم (الإمام علي بن الحسين)، ص146، البحار: ج46، ص69.
(7) إنَّ أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام، جمعت غالبيتها في كتاب سمّي (الصحيفة السجادية) في عدة أجزاء. فالجزء الأول معروف ومتداول في معظم دور الكتب ونحن نملك الصحيفة السجادية الرابعة والخامسة من طبعة قم. وهما في مكتبتنا (العسيلي).
(8) سورة العنكبوت، الآية: 69.
(9) عوالم العلوم (الإمام علي بن الحسين)، ص157.