نسرين إدريس قازان
اسم الأم: أمال حسن.
محل الولادة وتاريخها: بعلبك 2/6/1987م.
رقم القيد: 216.
الوضع الاجتماعي: عازب.
تاريخ الاستشهاد: 23/4/2013م.
هناك في كربلاء الغوطة كان اليوم العاشر لهم من دون ماء.. ولكلّ عاشق كربلاؤه.. اقتات الجوع والعطش من جسد قاسم ورفاقه الثلاثة، وكان يكفي ترطيب الشفاه بما تبقّى من زجاجة مياه غازية لدرء المنيّة وشحْذ الهمّة.. وبين براثن عدوٍّ مستذئب ينهشُ الحياة بتسميم المياه والهواء، أُطبق الحصارُ فصوحب بالصبر والاحتساب... كان قاسم يعلمُ أنّ هذا سفره الأخير.. فودّع أهله وجميع أصحابه، حتّى أمه التي كان يُبعدُ عنها ظنون المخاطر في المعارك خوفاً عليها، أخبرها أنّه لن يعود من مهمّته.
*وضوء من معين سلسبيل
من بيت إلى آخر، دارت معركة غير متكافئة، قَتل فيها المجاهدون الأربعة عدداً كبيراً من التكفيريّين، على الرغم من الجوع والعطش، فإذا ما حان وقت الصلاة، بحثوا عن مكان يستريحون فيه ويؤدّون فيه صلاتهم، فلجأوا إلى مدرسة مدمّرة.. نظّف قاسم زاوية من الحصى والحديد وجلب إليها تراباً ليتيمّم، وخلفه أصدقاؤه.. وما إن ضرب العاشقُ بكفّيه على التراب الجافّ، حتّى انفجر به لغمٌ أرضيّ، وسُقي بكأسٍ من معين سلسبيل..
بقيت أمّ قاسم تجلس في زاوية الشرفة، حيث اعتادت أن تودّع وتستقبل بِكرَ أحلامها، وقلبها يحدّثها بأشياء تكرهها.. غير أنّ القلبَ يظلّ منتظراً من لا يعودون، وتُلملم الروح ذكريات بعثَرتْها الأيام، لفتى لم يعرف والداه متى كبر! فقد تصدّى لمهامّ الحياة صغيراً، بعيداً حتّى عن اللعب مع أقرانه الذين استأنسوا بوعيه لإنقاذهم من المآزق التي يقعون فيها..
*التضحية من أجل الوطن
كان قاسم، على صغر سنّه، ذكيّاً حكيماً، سريع البديهة، حاضر الجواب في كلّ نزال كلاميّ، سيدَ الموقف في الكلام عندما يدافع عن رفاقه ويُبيّن حقوقهم كما يُلزمهم حدودهم، فإنْ وقع العراك بين الأولاد، نأى بنفسه عن ذلك، فلا شيء عنده يستدعي العراك إلّا أن يكون ممّا لا يقبله الشرع والأخلاق.
من والده الجنديّ في الجيش اللبنانيّ، تعلّم قاسم كيف يضحّي المرء باستقراره لأجل الوطن، فتصدّى لمسؤوليّة رعاية إخوته في غياب والده الذي كان يصحبهم في بعض الأحيان معه كي يكونوا على مقربة منه.
*صادقٌ رغم العقاب
هو فتىً مثاليّ، كان يستفزُّ مَن حوله من الرفاق لشدّة محافظته على الأمور والتفاصيل التي تراعي معالم الشخصيّة التي أراد، فمرّة خرج وصديقه وتأخّرا بالعودة لوقت غير مسموح به، فكان لا بدّ من سبب يبعد عقاب الأب، فاقترح رفيقه عليه –بعد طول تفكير- حجّة مقنعة، وما إن دخل البيت وسأله أبوه عن المكان الذي كان فيه وسبب تأخّره، أخبره قاسم مباشرة بالحقيقة دون خوف أو وجل، ورفيقه ينظر إليه مدهوشاً من بساطة جوابه وصدقه.
أحبَّ قاسم الصيد وكانت هذه المغامرات تسلب لبّه، فلم يحبّ شيئاً كما أحبّ السير في البراري، حاملاً بندقيّته، باحثاً عن طريدة. هواية حملها قاسم معه إلى عمله في المقاومة، وزيّنها بالاحتراف، فكان قنّاصاً صبوراً ماهراً، دقيقاً في توقيت تصويبه.. فقد التحق قاسم بالمقاومة وهو في مقتبل العمر وساعده والده المقتنع بهذا القرار على تجاوز مصاعب البدايات الأولى للجهاد.
*المقاومة حياة في حرب تموز
في حرب تموز 2006م، كان قاسم من المجتمع المقاوم الذي قاوم فيه كلٌّ على طريقته، وكان في تلك الفترة قد خضع لدورات ثقافيّة وعسكريّة عدّة، ما ساعده على إبراز ما تكتنفه شخصيّته من ميزات روحيّة وقتاليّة، فإذا ما سطّر النصر آخر حكاية تمّوز، كان قاسم قد رتّب أموره ملتحقاً بالمجاهدين، عازماً على تطوير ما اكتسبه، فخضع لعدّة دورات أبرزها دورة القنّاصة التي برع فيها، ووفّق للمشاركة في العديد من المهمّات الجهاديّة؛ فكان محبوباً من المجاهدين، فهو محدّث مرح لطيف، عرف كيف ينثر السعادة على كلّ من حوله.
أثناء تخريج إحدى الدورات، نال قاسم شهادة الأخلاق الحسنة، ولم يستطع رفاقه إخفاء الدهشة التي علت وجوههم حينها، فهو كان يثير الضجيج بمرحه، ولكنهم أدركوا متأخّرين أنّ حديثه ومرحه لم يكونا إلّا في إطار زرع السعادة في من حوله.
*السيّدة خولة عروج العاشقين
هو مقام السيّدة خولة عليها السلام مهبطُ عروج العاشقين. تراهم يلتجئون إليها ليتزوّدوا للدنيا والآخرة. وقاسم كان أحد أولئك الذين كان المقام ملاذهم، يشحذ همّته هناك، ويعود إلى ساحة الحياة مطمئناً. وكان يحرص كثيراً على التزامه والتزام إخوته، فكان كثير الالتفات إلى تفاصيل صغيرة، خوفاً من استهتار يؤدّي به إلى شبهة أو معصية. وكانت علاقته بإخوته متينة ووثيقة، خصوصاً بأخيه الذي يصغره بسنوات عدّة، وقد أحبّ أن يوفّر له سُبل الراحة كلّها، حتّى إنّه على الرغم من عودته متعباً من العمل كان يخصّص له وقتاً يلعب فيه معه.
شيّد قاسم منزلاً جميلاً وسط حقلٍ يترقرقُ فيه الهدوء، ودعا إليه عائلته للاجتماع في حديقته قبل سفره الأخير، وقد أخبر أخته أنّه اجتماعهم الأخير، وإنْ كان قد التحق بصفوف المجاهدين في سوريا منذ اندلاع الحرب وشارك في العديد من المعارك، إلّا أنّه شعر بأنّ الغوطة ستكون محطّ رحاله..
أن تصير ساحة المعركة المحتدمة مسرحاً للضحك والفكاهة، هو ما قام به قاسم، فكان ورفاقه يقاتلون ويتحدّثون، ولم يكبت قاسم للحظة ضحكته، تلك الضحكة التي كانت تشرق كالشمس فتضفي السعادة على مَن حولها.. ولكلّ شمس أفق تغرب خلفه، والرحيل كان أُفق قاسم، غير أنّه لا يزال حاضراً يضجّ في القلوب الحياة.