مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: طوعةُ فداءُ مـسـلـم


الشيخ علي حسين حمادي


قبل أن تضع المعركة أوزارها مسجّلةً نصراً جديداً في كتاب الانتصارات المفتوح؛ شاءت الأقدار أنْ تسقط القذيفة الأخيرة على بُعد أمتار منه، فجعلت موجتها الناريّة "فداءً" يطير لمسافة ويحطّ كالطير الجريح في حقلٍ استولت الأعشاب على كلّ مساحته، وبدت كأنها تتطاول إلى أفنان أشجاره التي أصبح معظمها كالصريم.

*فقدنا الاتّصال
بعد نصف ساعة خيّم الظلام سريعاً مموّهاً بذلك غبار المعركة وغيوم البارود فيما بقيت جُثث العدوّ منتشرةً على الأرض. وبدت الأرض تضجّ تحتهم كأنّي بها تدعو أن لا يكون نصيب بطنها مثواهم.
فداء فداء فداء... فداء فداء..

لا أحد يجيب... فقدنا الاتّصال..

استمرّ الإخوة في غرفة الإشارة يحاولون لساعات التواصل مع "فداء" الذي اختفى في لحظات المعركة الأخيرة، والتي جرت في منطقة ريفيّة قريبة من دمشق. كما إنّ المجموعة التي تبحث عنه لم تعثُر على أثر له.

*في اتّجاه معاكس
كان القمر فوقه مباشرة يؤنس نفسه بحكايته. فتح فداء عينيه للسماء... قام يتفقّد ما حوله ويمسح الدمَ والتراب عن وجهه. أحسّ بالعطش يكوي كبده. فجأة سمع صوتاً قريباً. أصغى بسمعه أكثر فأكثر فتأكّد من وجود الصوت ويبدو أن مصدره التلّة إلى يساره من جهة العدوّ.

نظر إلى النجوم محاولاً تحديد الجهات وساعياً لاكتشاف طريق العودة إلى المنطقة الآمنة. سار لساعتين تقريباً، وبينما هو كذلك، غير مدركٍ أنه يسير بالاتجاه المعاكس حيث مناطق سيطرة العدو، إذ أشرف على قرية صغيرة ظهر، تحت ضوء القمر، على أطرافها بيت صغير هو الأقرب إليه. فسعى جهده للوصول إليه حيث وجد فيه بصيص أمل. وصل بشقّ النفس، واتّكأ على شجرة مواجهةٍ لباب المنزل. لم يقوَ على الوقوف أكثر من ثوانٍ فجلس مستسلماً للأفكار التي هبّت كنسائم الربيع.

*غريب كمسلم
تذكّر عظيماً من عظماء التاريخ خذله الجميع واستقرّت به الأقدار عند باب بيت طائعة لله تدعى "طوعة"، إنّه "مسلم بن عقيل".

وبينا هو كذلك يئنّ من الوجع وتمرّ بخياله وحدة مسلم فيتأسّى حتى بدأ يغيب عن الوعي، وإذا بشخص يشعل النور، فظن أنّها هلوسة وغاب عن الوعي ورأسه يتّكئ على شجرة الزيتون وقد سقاها بعضاً من دمه العذب.

بعد معاناة كبيرة استطاعت المرأة الضعيفة أن تسحب "فداء" إلى المنزل وتضمّد جراحه حتّى اطمأنّت إلى وقف النزيف، ثمّ جلست إلى جانبه وحاولت أن تفسّر الطلاسم التي كان يهذي بها: طوعة ساعديني... أنا غريب كمسلم... هل لي من شربة ماء؟ لقد كوى العطش كبدي...

من هي طوعة؟!! تساءلت المرأة في نفسها.

بقيت ساهرة تحرسه كالأم الرؤوم، إلى حين صدح المؤذن عند الفجر، ففتح عينيه، وعندها سارعت تطمئنُه: - الحمد لله على سلامتك يا بنيّ... لا تخفْ.
- أين أنا ؟!
- أنت في بيتك.. اهدأ.
أصرّ على النهوض رغم حالته لأداء الفريضة.

*مَن هي طوعة؟

عايَن جراحه فوجدها قد ضمّدت بطريقة محترفة.
بادرَتْه المرأة: لقد كنتُ ممرّضة فيما مضى. هل حان دوري في السؤال؟ تابعت مبتسمة. من هي طوعة؟!
سكت وهو يتأمّل سؤالها.
- ما زلت تناديني به طوال الليل وتشكرني وأنت بين النوم واليقظة.

ابتسم "فداء"... هذا ربّما لأني لا أعرف لك اسماً، فاخترتُ لكِ واحداً. قال مرتبكاً..

أحسّ بأنه تصرّف بشكل غير لائق مع المرأة التي أنقذت حياته. ما الضير لو أخبرها بقصة مسلم وطوعة؟ ألم تتصرّف كطوعة فعلاً حتى الساعة ؟!

بدأ يفكّر كيف يخرج من المكان ليعود إلى المحور. قرأت الأفكار في عينيه وكذلك القلق، فهمست: يا بنيّ إنّ الأعداء يحيطون بالقرية ولا أعلم كيف استطعتَ الوصول إلى هنا دون أن يرَوك. فلا تفكّر في الخروج سأتدبّر طريقةً ما نوصلك بها إلى المستشفى أو إلى أهلك. سأحضّر لك شيئاً تأكله فأنت بحاجة إلى الغذاء. غابت ثم عادت تحمل بعض الخبز واللبن.

*مسلم سفير الحسين
بعد ذلك دخلتْ غرفة حجَبتْ جدرانها مكتبة كبيرة، يحدوها الفضول لمعرفة من هما مسلم وطوعة. وقد رجّحت أن لهما علاقة بالتاريخ الإسلاميّ. فراحت تبحث إلى أن اهتدت إلى كتاب اسمه "قصّة كربلاء". بحثت في الفهرست وفجأة توسّعت حدقتاها عندما قرأت عنوان "الفصل الأول: مسلم سفير الحسين".

مرّت ساعة وهي تقرأ بتمعّن حتّى سمعت سعالاً مفتعلاً صدرَ من الغرفة الأخرى. مسحتْ دموعها ونهضت لتطمئنّ على ضيفها الغريب.

كان "فداء" قد تعمّد رفع صوته بالسعال حتى يستعلم هل المرأة ما زالت في البيت أم غادرت لتخبر أحداً ما بوجوده.
عندما دخلت الغرفة بادرها بالقول: أريد أن أغادر.. لا يمكنني البقاء أكثر.

- اصبر قليلاً أيها الغريب... أم أنَّ مسلماً لم يكن صابراً؟!

نظر إليها بتعجّب. هل تعني ما تقول أم أنّه مجرّد اتّفاق؟!

ابتسمت.. وقالت: يا بنيّ إنّ خروجك الآن يعرّضك للقتل أو الأسر، اصبر، سأسعى لإيصالك إلى حيث تريد.

*حيلة المغادرة
حملت الهاتف وأجرت اتصالاً: ألو، نرجس... الحمد لله ولكني أشعر بنوبة. أحتاج إلى سيارة إسعاف.. حسناً أنا بانتظارك.
وصلت السيارة. نزلت نرجس وهي تركض خائفة: - أمي لقد أفزعتني كثيراً.. طمئنيني..

- الحمد لله أنا بخير. أعرّفك بمسلم -وأشارت إليه- "نحتاج أن ننقل هذا الشابّ حالاً".
ذهلت نرجس لما رأت ولكنّها سارعت إلى تنفيذ أوامر والدتها.
انطلقوا بسرعة بعد أن أشارت نرجس للسائق أن يشغّل صفارة الإنذار الخاصّة بالإسعاف. وراحت المرأة تدعو الله أن يخرجوا من هذه المنطقة بسلام.. وشاء الله أن تكون الطريق آمنة.

*مسلم يستحقّ التضحية
بعد نصف ساعة وصلت سيارة الإسعاف إلى مقربة من حاجز، فأشار شابّ لهم بالتوقّف ثم اقترب منهم. قالت له الحاجة: معنا أمانة تخصُّكم، وأشارت إلى الخلف.
فتح الحارس الشابّ الباب الخلفيّ ففوجئ بجريح يلبس بزّة عسكرية خاصّة بالمقاومة الإسلامية. سلّم "فداء" عليه وعرّفه بنفسه. فنادى الحارس على جهازه اللاسلكيّ ليبلغ مسؤوله بالأمر ويطلب المسعف.

نزل "فداء".. نظر إلى المرأة وفي عينيه يلمع بريق الشكر والعرفان، وقال: شكراً لكِ يا خالة.. ولكن لماذا خاطرتِ بنفسك وبابنتك لتنقذي مجهولاً قاده القدر إلى باب بيتك؟!

ابتسمت بدورها وقالت: ألا يستحقّ مسلم التضحية من أجله؟! اعلم يا بنيّ أنّ في كلّ زمان توجد نساء كطوعة.

ودّعته وصعدت إلى السيارة وعادت مع ابنتها إلى منزلها. جلست على كرسيّها الخاص وقد سرى في قلبها شعورٌ جميل بالرضى. حمدت الله. وحملت كتاباً قد أشارت إلى صفحةٍ فيه بعلامة.

فتحت الكتاب: "الفصل الثاني: الحسين في طريقه إلى كربلاء".
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع