نسرين إدريس
بطاقة الهوية
الاسم: إيهاب حيدر مدلج
اسم الأم: زهرة طالب
محل وتاريخ الولادة: تمنين التحتا 1976
الوضع العائلي:
عازب
رقم السجل: 157
مكان وتاريخ الاستشهاد: بني حيان مرجعيون 25 / 2 / 1999
يسبقه عبق طيبه كفراشات الأمل ترفرف حول وجهه الجميل،
وترفعُ أمه ناظريها ما أن يترقرق صوته الرنان في أذنيها، ويطل شخصه كطيفٍ شفاف لا
تكاد الأنظار تلامسه إلا وتنكسر الرؤيا لتحلق الروح في عالم رائع بين واقع وخيال،
فتسارع إليه لتخفف من تعب كفيه وتأخذه بين ذراعيها، تحضنه في محاولة يائسة لتشعر به
ولو لمرة واحدة أنه معها، أنه أمامها، لكنها ما إن تلامس جسده حتى تسمع صدى دقات
قلبها تتردد في خلو صدرها، فقد تركت روحه هذا الضيق، وسكنت في رحاب اللَّه.
كان
الجميع يلومها على اهتمامها الشديد به وحرصها المبالغ به، خصوصاً بعد أن كبر وأصبح
شاباً يُعتمد عليه، غير أن ذلك الشعور الذي كان يقبض على قلبها كلما رأته بقي
ملازماً لها، واشتد في لحظة استشهاده حتى قبل إبلاغها بالنبأ، كانت تستمع لمجلس
عزاء السيدة الزهراء عليها السلام، المجلس الذي يكسر قلب إيهاب ويذوب به لوعة وأسى،
في تلك اللحظات التي ارتفع نشجيها بشكلٍ غير اعتيادي، كان حبيبها يهوي صريعاً على
الأرض مضرجاً بدمائه...
صحيح أن إيهاب لم يكن وحيدها، فقد رزقها اللَّه تعالى سبعة أبناء هو خامسهم، ولكنها
عندما حملت به، رأت في منامها أمير المؤمنين علي عليه السلام وأخبرها أنها ستنجب
مولوداً مؤمناً، فأنجبت «إيهاب» الطفل الوديع الذي يعصف الهدوء الآسر على ملامحه...
كان فتىً صغيراً عاقلاً لدرجة أنها كانت تتمنى أن يلعب أو يتحدث، أو يقوم بأي شيء،
فصمته الطويل ونظراته الهائمة بين حدود الأشياء أشعل في فؤادها حرقة ازداد أوارها
كلما شب وكبر بين أزقة الطيونة... لم تكن منطقة الطيونة مجرد مكان انتمى إليه إيهاب
وتربّى في أحيائه، بل كانت منطلقاً لعروجه في طريق المجاهدين... هناك نظر ببصيرته
الصافية إلى الدروب الممتدة أمامه، لينتقي أوضحها، وأقصرها نحو الآخرة، وعندما أيقن
أن طريقه ستكون قصيرة، ما عاد ينظر إلى الغد نظرة منتظرٍ، بل تحول الوقت عنده
لمطيّة تعينه على الوصول السريع... في كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه كانت
البداية، التي غيّرت فيه الكثير الكثير، وكلما كبر تحول الهدوء المسيطر على طبيعته
إلى شعلة من حماس واندفاع، فكان يجمع بحق التناقض بين الهدوء الذي لم يستطع أحد
كسره للوصول إلى أعماقه، والحركة الدؤوبة في خدمة الناس وخصوصاً المستضعفين...
في الرابعة عشرة من عمره التحق بالدورة العسكرية الأولى، وكان من الطبيعي جداً لفتى
مثل إيهاب يتحلى بالوعي والادراك الكامل لحقيقة الدنيا أن يختار طريق الكفاح،
الطريق الذي جعله واحداً من مجموعة الخمسة: رامح مهدي، محمد علي الحسيني، علي
كوثراني، إبراهيم عيسى، وهو، رواداً في المسجد الذي احتضنت إحدى زواياه أسرارهم،
وأنين أشواقهم، وعشقهم الهائم بين شهيق الصبح وزفير الرصاص، حتى صاروا شهداء... من
يسعى مذ نداوة العمر لمعرفة الخميني العظيم قدس سره حق المعرفة، فقد أُنيرت له سبل
الدنيا والآخرة، كيف لمن كان الإمام قدس سره الدّم الذي يجري في شرايينه، كيف لمن
جعل من فؤاده بيتاً لأحزان السيدة الزهراء عليها السلام واتخذه صومعةً يعلو فيها
نشيجه ويشكو فيها أحزانه ولوعاته، ذاك القلبُ الذي لم يبصر الدنيا طرفة عين، بل كان
بكلِّه للَّه وحده، إنه العروج الروحي صوب السماء، إنه عروج عاشق كان الحب زاده
الوحيد في هذه الدنيا..
عندما وقع عن الطابق الرابع وهو في عمر الخامسة عشرة، كان
بقاؤه على قيد الحياة أعجوبة أدهشت الجميع... سر لم يعرف أحد مكنونه إلا عند
استشهاده وأن اللَّه العلي القدير قد انتخبه لأمر عظيم، وليس ثمة أعظم من الشهادة...
روحه التي كانت تضغط على وجع قلبه وتشد على الجراح بصمت، ليسكت أنينه بصبرٍ طويل،
علّمت كل من حوله أن حقيقة الألم تبدأ حينما تصبحُ نفس المرء في غمرة كذب الدنيا.
كان والده الرافد الأول له في تشجيعه لمساعدة المقاومين، وسعى لتأمين مصاريفه التي
غالباً ما كان يقدمها لصالح العمل في شعبة الطيونة التي تحولت بوجوده إلى منطقة
تزخر بنشاطٍ متميز، فكان إيهاب لا يهدأ وهو يتنقل من مكانٍ لآخر ليل نهار، وقليلة
هي الأيام التي سعى فيها للقيام بعملٍ شخصي يؤمن من خلاله مستقبله، فقد كان يرى في
الغد حلماً سيتحقق ولو بعد حين وهو الشهادة، وعلى الرغم من وضوح انتماء إيهاب لحزب
اللَّه إلا أن أحداً لم يستطع معرفة طبيعة عمله لما أحاط بنفسه من سرية تامة، جعلت
البعض يتفاجأ عند استشهاده، غير أنه في بعض الأحيان أيضاً كان يصفُ منزل جده لأمه
في قرية الطيبة لوالدته التي كانت تستغربُ حديث ولدها المتأرجح بين جدٍ ومزاح...
وفي يومٍ لم يكن ببعيد عن يوم استشهاد إيهاب، توفي والده، تاركاً ولده الشاب الذي
كان يستندُ عليه في دائرةٍ من حزن عميق، لم يخرج منها إلا وقد تسلح بعزيمة جديدة
لمواجهة الحياة... بعد وفاة والده ورحيل رفاقه الأربعة واحداً بعد آخر، تحول إيهاب
إلى شخصٍ غريبٍ في مجتمعٍ تآلف وتواجد العذب فيه، كان لاخوته الصدر الحنون الذي
يذرفون أحزانهم عليه، واليد التي تشاركهم أفراحهم، والمعين لهم حين تضيق الدنيا
عليهم، ولأمه بقي الابن الذي كلما أطل بعد غياب تعلقت به أكثر، لكن غربته ضيقت عليه
خناق البقاء... وفجأة صار إيهاب يتحدثُ عن الشهادة أمام أمه وأخوته، خصوصاً بعد
استشهاد رامح مهدي آخر رفاقه الأربعة، وقد بكاه بكاءً حتى لكادت روحه أن تفارق
جسده، فما كان من أم إيهاب إلا وقد تعلقت بولدها أكثر، وازداد خوفها عليه، وقد لاحظ
الجميع أن شيئاً ما تغيّر في ملامح وجهه، شيئاً لم يستطع أحد تفسيره، نور ينبعثُ من
زوايا تقاسيم وجهه لتصب في القلوب رونقاً لا مثيل له... كان إذا مشى إيهاب أحست
بالملائكة تحف به، وبسمته استوت على عرشِ الأفئدة التي صارت تناجيه شوقاً وحنواً
وهو يهيم على وجه البسيطة طمعاً في جنة الخلد...
إن الأمنيات هي ملك فؤاد المرء، فإذا دعا اللَّه مخلصاً استجاب اللَّه دعاءه، فكيف
إذا كان شخصاً مثل إيهاب، دعا اللَّه باخلاص كل جارحة من جوارحه أن يرزقه شهادة
يرضى بها وجهه الكريم... كان في المرابطة ويهم بالرجوع هو وثلاثة أخوة إلى بيروت
عندما طلبت قيادة المقاومة اثنين أن يبقيا للمشاركة في إحدى المهمات، تاركة لهم
خيار الانتقاء، فصار الأخوة يتسابقون لنيل فرصة المشاركة، وقد منّ اللَّه على إيهاب
أن يكون أحدهما، والتحق في المهمة داخل الشريط المحتل مع مجموعة من المجاهدين، وقد
كانت مهمتهم مكللة بالنجاح لولا وقوعهم في كمين صهيوني تشابكوا معه وجهاً لوجه، ولم
يهدأ رصاصهم إلا عندما حلّق الطيران الحربي وبدأ بتمشيط المنطقة ما أدى إلى استشهاد
إيهاب واحد رفاقه... كانت شفاه إيهاب تذكر الإمام الحسين عليه السلام عندما سقط
شهيداً، وبقي ثلاثة أيام في أرض المعركة، لكن جمال وجهه شعّ أكثر حتى أنار طرقات
السماء قبل طرقات الأرض... اكتمل عهد الأقمار الخمسة الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه
عليه، وقد أدوا أمانتهم لربهم بقلوب هادئة...
فسلام عليهم يوم ولدوا، ويوم
التحقوا بركب المجاهدين، ويوم رزقوا الشهادة حنفاء مسلمين خمينيين، ويوم يبعثون
مجاهدين بين يدي الحجة المنتظر عجل الله فرجه.