نسرين إدريس
بطاقة الهوية
الاسم: محمد عبدو كمون
اسم الأم: مريم إبراهيم
محل وتاريخ الولادة: جباع 1971
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 125
مكان وتاريخ الاستشهاد: طريق عرمتى - الريحان 5 / 8 / 1992
تترنم موسيقاه بين الجبال والأودية كلحنٍ يوقظ الحياة بين
الغابات الغافية عند صحوة الصبح الندي، تحفظه الطيور، وتغنيه الجداول، وترتجفُ
وريقات الأشجار على أنغامه في ليالي شهر رمضان... كانت جباع تستيقظ على صوت "الطنبور"
وهو يعزف لحن الكشافة، ويترك العنان لأصابعه وهو يغلق عينيه ليَقيس مسافات التشابه
بين لحنه وعزف الرصاص، وترتسمُ بسمة الرضا على شفتيه وقد رأى جثمانه شهيداً تحمله
أكف الصحاب، وخلفه يسير رفاقه في الكشافة يعزفون لحن الشهادة...
من كان يظنُّ
أنَّ محمد الفتى المدلَّل عند والديه وإخوته سيترك كل مباهج الدنيا ويختار زاوية في
صافي... وكيف لا وقد كبر والجبل يبعث في روحه معاني الصمود والشموخ.. فتمردت روحه
الصغيرة على واقعه وراح يبحث في الحياة عن سُبل السعادة... كان طفلاً خجولاً ينضوي
صمته على أفقٍ من الحكمة والذكاء، التزم بالأحكام الشرعية قبل بلوغه سن التكليف؛
لكن البحث عن دينٍ غير تقليدي ولّد في نفسه حب الثورة. ليس الدين صلاةً وصياماً.
الدين أكثر من ذلك. كان محراب المسجد القديم ملجأ شكواه، يُحادثه بما يختلج في صدره
ويبكي ولا يدري ما سرُّ ذاك الشيء الذي يكبر بداخله كلما سمع صوت الرصاص، أو كلما
سقط شهيد...
اختزل محمد نفسه من البيئة المحيطة به، وشيّد لنفسه دنيا خاصة أحاطها بالسرِّية
والكتمان، كان يساعد والده في عمله ويحاول جهده أن يُخفّف عنه العبء والتعب، ويهبُ
والدته بعضاً من السكينة بعد أن صار القلق يستيقظ بين جفونها وهي تراه يتململُ على
جمر القرار وهو يقضي أوقات فراغه دائماً قرب المسجد حيث يتلاقى المؤمنون...
والمقاومون أيضاً... إلتحق بكشافة الإمام المهدي وله من العمر ستة عشر عاماً، وعلى
الرغم من خجله الشديد، فقد لمس القادة عنده روح المبادرة والشجاعة، يخدم بكل روح
طيبة، ويُحبُّ الخير للآخرين، دقيقٌ في كل شيء، فتى منظم يقسّم وقته بين أوقات
العبادة والعمل، والعمل الكشفي الذي سلب لبه..
ثم ما لبث أن خضع لدورات عسكرية بعد
أن قرّر ترك الدراسة ليساعد والده في العمل، وعلى الرغم من انتقال أهله لفترة قصيرة
للعيش في العاصمة بيروت وانتسابه إلى الفرقة الموسيقية المركزية لكشافة المهدي جل
الله فرجه غير أنَّ تواجده كان شبه دائم في القرية التي وُلد وترعرع فيها.. عندما
بلغ العشرين من عمره التحق محمد بصفوف المجاهدين في المقاومة الإسلامية ضمن وحدة
الهندسة، وصار يقضي معظم أوقاته في المحاور، وكان يرفضُ أن يُرابط إلا على المحاور
الصعبة وخطوط النار، وقد سعى بكل جهده ليكون والداه راضيين عن عمله، فكلما عاد إلى
المنزل أرسى الطمأنينة في قلب والديه، وكان يخدم الناس بفرح كبير، فعندما اشتدت
الحروب وحوصر الجنوب بزنار من لهيب، وصار إقليم التفاح شبه معزول عن القرى
المجاورة، كان محمد يتنقل بين المنازل تحت الرصاص والقذائف ليتفقد أهلها ويؤمِّن
احتياجاتهم المعيشية، ولا يُشعر أحداً أن التعب قد ألقى بدثاره عليه...
لم يتأخر للحظة على أي عمل يُوكل إليه، بل على العكس كان يبادر للالتحاق بأي عمل
ويتمنى الشهادة في كل لحظة، ودائماً يؤخر إجازته السنوية في عمله حتى شهر رمضان
المبارك، وذلك حتى يُوقظ أهل جباع على صوت موسيقاه التي تعوّدوا عليها، فدائماً عند
منتصف الليل يسير ورفاقه وهو يعزف وينشد أناشيد شهر رمضان، غير أنّه ذات يوم استدعي
لزرع عبوة في مكان لا يستطيع أحد الوصول إليه غيره، فأخبر مسؤوله أن إيقاظ الناس في
الأسحار واجب عليه كما يوقظ الأخوة على صلاة الصبح في مكان عمله، واشترط عليه إن
أنهى مهمته بنجاح عاد فوراً إلى القرية، وبالفعل انطلق محمد إلى طريق عرمتى الريحان
بعد الإفطار، وتحت المطر وصل إلى النقطة المحددة له وقام بزرع العبوة وعاد سريعاً
ليصل في الوقت المحدد لإيقاظ الناس، فتفاجأ المسؤولون بتلك السرعة التي أنهى فيها
عمله على أتم وجه وعاد فيها إلى القرية. هكذا قضى محمد أيامه مع رفاقه المجاهدين،
بين محور وآخر، وبين شهيد وشهيد، وهو ينتظر دوره، ولطالما كانت الشهادة قاب قوسين
أو أدنى ففي إحدى المرات شارك في دورية في عمق المناطق المحتلة، وحدث أن وقعت
المجموعة في كمين إسرائيلي ودارت اشتباكات عنيفة بينهما فاستشهد كل رفاقه إلاّ هو،
وفقد وسيلة الاتصال مع القيادة، فكان يتحين الفرص ليتنقل من مكان لآخر بحذر شديد
منسحباً نحو الخطوط الخلفية، وعلى الرغم من أنَّ الفرصة كانت مؤاتية له ليكون
استشهادياً ويقتل العديد من الإسرائيليين غير أنه التزاماً بتكليفه لم يفتح النار
ولم يكن معه جهاز لاستحصال الإذن بذلك، وبقي خمسة أيام لا أحد يعرف عنه شيء،
ولم يكن معه من الزاد طوال تلك الأيام غير قطعة واحدة من الشوكولا، كان يأكلها على
وجبات كل وجبة قضمة صغيرة، حتى وصل إلى مركزه قبل إعلانه شهيداً بفترة قصيرة...
عقد محمد قرانه وسعى لتأمين البيت الزوجي، ولم يشغله ذلك عن عمله طرفة عين أبداً،
فقد باع للَّه نفسه وتلك هي التجارة التي لا تبور.. ولكم ناجى محمد رفاق دربه الذين
سبقوه، وعزف لهم نشيد "أخي سوف تبكي عليك العيون"، ولكن ليس عيونه التي بكت على
فقدهم فحسب، بل كل جارحة في نفسه نزفت ألماً لفقدهم... وقبل انتقاله لبيته الزوجي
أزفت ساعة الرحيل، كانت يداه تشبكان أسلاك العبوات بمهارة فائقة على طريق عرمتى -
الريحان عندما كشفته دورية إسرائيلية لحدية وفتحت النار عليه فاستشهد على الفور،
ووقف عند جثته المدماة العميل "أسعد نصر" ليسحب جسده الطاهر وليُظهر للعالم مصير من
يحارب الجيش الذي لا يُقهر... لكن بعد شهرين من تلك الحادثة أعدمت مجموعة من
المقاومة الإسلامية العميل "أسعد نصر" لتُظهر للعالم أجمع مصير من يبيع وطنه
وشعبه.. بقيت جثة محمد مع الإسرائيليين منذ العام 1992 حتى العام 1996 حيث استعيدت
مع تبادل الجثث والأسرى، وعاد ليُدفن جسده الطاهر تحت تراب بلدته التي نسج من حبات
ترابها عشقه الصاخب، وكتب بدمه على جدرانها "ألا إن الموت لنا عادة وكرامتنا من
اللَّه الشهادة"، وتبقى أنشودته في السحر تتردد بين أطراف الوهاد وزوايا القلوب
ذكرى لا تغيب لشابٍ ما تزال حكاياه تجمع كل من أحبه بصدقٍ، وتنظر عيونهم دوماً نحو
جبل صافي...