نسرين إدريس
تحية إلى الشهيد الفلسطيني المهندس الأسطورة يحيى عبد اللطيف عياش
صباح ذلك اليوم الممطر من أيام كانون الثاني، وقفتُ خلف النافذة أراقب حبّات الغيث
المنهمرة بغزارة على الطريق التي بدأ الناس يغادرونها راكضين إلى حيث يحتمون من
البلل، وقد تحولت الدنيا إلى مشهد حزين وصوت تكسر المطر على الأرصفة والطرقات غدا
كأوركسترا تعزفُ سمفونية ترفع الستائر عن الذكريات وتجعلها أكثر حضوراً من أي شيء
آخر.. وفجأة يشعر المرء على الرغم من الضجيج الصاخب في الخارج أنه شخص وحيد خلف
نافذة من الصقيع، يمدُّ بنات أفكاره اليابسة إلى الخارج لتعلق بعض حبات المطر عساه
يأتي الربيع يوماً وتورق ورقة خضراء أو حتى.. ربما اثنتان! غريب كيف أن فصل الشتاء
يختزل بداخلنا كل فصول السنة!
كان من الصعب عليَّ أن أتابع تحديقي بالنقاط التي
تجمعت وكوّنت بركاً صغيرة تطفو على سطحها الفقاقيع، فعدتُ إلى مكتبي لأنكب على
العمل... كانت صحيفة "السفير" موضوعة على حافة المكتب، أخذتها لأقرأ العناوين
الرئيسية فهالني ما قرأت، وكررت الجملة غير مرة لأتأكد من الخبر (بعد عمليات فدائية
نوعية ومطاردة استمرت 3 سنوات؛ استشهاد المهندس يحيى عياش بعبوة ناسفة في غزة..
وإسرائيل تتنفس الصعداء!).. ودون وعي راحت شفتاي ترفض الحدث: "لا.. غير معقول.. كيف
حدث هذا؟". وللأسف، سرعان ما استسلمت أمواجي الغاضبة لتفاصيل النبأ التي جعلتني
أذرف دمعي ليمهر بملوحته على الجريدة، وبالتحديد على اسمه: يحيى عبد اللطيف عياش..
شعرت بالسطور مبعثرة الجمل، وكلما حاولت التركيز في القراءة ربضت غيمة من الدمع على
صدري وتلاشى الهواء من أمامي..
لطالما كان يحيى عياش المهندس الأسطورة محور اهتمام ليس للمتابعين أعماله العسكرية
النوعية فحسب، وليس فقط للعدو الإسرائيلي الذي أدرج اسمه على رأس قائمة المطلوبين،
ولكن أيضاً كان رجلاً يحمل الكثير من الغموض الذي يحرك في داخل كل فرد منا الفضول
لمعرفة من هو؟ أين يعيش؟ كيف يقضي أيامه؟ لقد كان يغيبُ طويلاً ويعود في لحظة
انفجار هائل يحصد الخسائر الفادحة من الإسرائيليين ويحرك في الشارع الفلسطيني جذوة
الثورة التي لم تخمدها الرياح العاتية..
تحول يحيى، ابن قرية "رآفات" (قطاع طولكرم)
من شاب حصل على شهادة الهندسة الكهربائية من جامعة "بير زيت" بامتياز، إلى رجل بلا
ملامح يصنع العبوات ويخطط لأهم العمليات العسكرية، التي كانت تزلزل الكيان الصهيوني..
وعلى الرغم من أنه، ككل رجال الاستخبارات، يختفي خلف قناعٍ لا تستطيع حتى والدته
التي عاش بين أحضانها من معرفته عن مسافة ربع متر، احتفظ بداخله بعطر فلسطين، كان
يشعر أن شرايين جسده هي شوارع القدس العتيقة، أن أنفاسه هي النسائم اللطيفة التي
تحرك الأشجار وتهبها بعضاً من الحياة، وأن انعكاس الشمس في عينيه هو العشق الصارخ
الذي جعله يمتطي صهوة الخطر، ويعيش أيامه بين أسلاك العبوات...
أربع سنوات قضاها يحيى في صراع مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية "شين بيت"، ومع
الخونة المزروعين على الأرصفة، والعيون الشاخصة صوب منزل ذويه، والظلال المتنقلة
بخفة خلف أقاربه ورفاقه، وكل من نطق باسمه.. كل ذلك، وقبل يومين فقط من اغتياله،
أنجبت زوجته ولده الثالث وأسماه "عبد اللطيف"! كان يعبر شوارع المستوطنات
الإسرائيلية بزي حاخامٍ، أو أي مستوطن يهودي، وفي داخله تعلو ضحكات السخرية منهم..
وقلة هم من الرجال المقربين في كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة
المقاومة الإسلامية حماس كانوا يعرفون مكان تواجده، إلى أن كان صباح يوم الجمعة،
الخامس من كانون الثاني 1996، اغتيل يحيى عياش بهاتف خلوي وهو يحادث والده...
كنت
استرق النظر إلى صورة يحيى وهو يلفُّ رقبته بالكوفية الفلسطينية، وأنا أقلب تفكيري
بين موضوع وآخر، وعدت لأقف خلف النافذة وقد هدأ المطر... لم أشعر بنفسي إلا وأنا
أسير في الشوارع والرذاذ يلفحُ وجهي، وشعورٌ عارمٌ من التحدي ينتابني كلما تذكرت أن
يحيى عياش المهندس الأسطورة، قد ترك ألف مهندس يكملون طريقه، وأن ذاك الرجل الذي
طالما حيرتني ملامحه، وتمنيتُ أن أرى وجهه الحقيقي قد ترك تقاسيم وجهه إرثاً لكل
الشعب الفلسطيني: خارطة فلسطين...