موسى حسين صفوان
الشعور بالدونية أمام التيارات الثقافية والحضارية
الواردة يخلق عادة عقدة في التكوين النفسي للشخصية الاجتماعية يطلق عليها عقدة
الدونية Inferiority complex ويؤدي إلى ظاهرة الانهزامية Defeatism التي تخنق
الإبداع وتحول دون الانطلاق في التنافس الحضاري، وتحول الأفراد ومعهم المجتمع إلى
حشد بشري تتفكك بين أفراده العرى والروابط الاجتماعية إلى حدٍ بعيد، ويتحول إلى
مجرد متلقٍّ لما تنتجه العقول الغريبة المتحررة من هذا الرُهاب xenophobia القاتل.
هذا باختصار ما يمكن أن نطلق عليه اسم الاستلاب أو الانسلاخ، الذي يعرِّي الشخصية
الفردية والاجتماعية من ثيابها ليلبسها ثياباً أخرى مستعارة..
والسؤال هنا: هل هذا
فعلاً ما يعاني منه جيل الشباب (بنسبة كبيرة)؟ وإذا كان كذلك، فما هي آثار هذا
النمط من السلوك الاجتماعي، على المشروع الحضاري والرسالي للأمة، إن كان مثل هذا
السؤال لا يزال يعني شيئاً للكثير من الآذان الشغوفة بالصيحات والصرخات، أكثر منها
بالبحث عن المصير والذات. وعلى الأقل، نسأل أنفسنا عن آثار مثل هذا السلوك على
الأوضاع الأكثر مساساً بحياتنا اليومية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي،
على اعتبار كوننا أمة تعيش في وطن يرفع شعار الحرية والديمقراطية!
بالنسبة للسؤال الأول فإننا لا نجد عناءً كبيراً لنلاحظ مدى استشراء ظاهرة الاستلاب
سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات... بدءً من أزياء الملابس وقصات الشعر ووصولاً
إلى طبيعة الخطاب السياسي والثقافي، ومشاريع الحداثة المستمدة من القلق الغربي
والتشكيك والضياع الذي يطلقون عليه المنهج الوضعي. حتى السياسيين، فإنهم سرعان ما
ينسلخون من ذواتهم ومبادراتهم القاصرة أصلاً عن إرادات وآمال الشعوب إلى مفردات
وبرامج الغرب الطامع بالبلاد والعباد. أما بالنسبة للآثار... فيمكن القول أن
المشروع الحضاري للأمّة يعاني من خطر شديد، ولولا وجود قلّة قليلة ما زالت مؤمنة
بجدارة هذه الحضارة الرائدة، ومستلهمة من قوله تعالى:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...﴾
(آل عمران: 110). ولولا أن اللّه سبحانه وتعالى تكفل لهذه الأمة بالنصر،
وأخبرنا بأنه مظهرها على الدين كله، لكان ربما تسلل بعض اليأس إلى القلوب من
إمكانية النهوض ثانية!.. بيد أن المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعات أمتنا
في مختلف البلدان الإسلامية والعربية، تفصح عن نفسها لتقول إن فقدان الحرية، وتفكك
العرى الاجتماعية، وانعدام الثقة النابعة من التدني المسلكي للشخصية الإنسانية
وسيادة الظاهرة الفردانية سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، كل
ذلك أدى إلى المزيد من التشرذم والضعف والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية،
ولو سمح لفريق من الإحصائيين بإجراء الإحصاءات العلمية في كل هذه المجتمعات لأظهرت
المستوى المرتفع والحدة البالغة لمثل هذه المشاكل.
إن من أهم نتائج هذه الحالة الاجتماعية النفسية، هو قلّة الإبداع على الصعيد العلمي
وعلى الصعيد الثقافي وأخيراً على الصعيد الاقتصادي... ففي العالم بلدان أقل مساحة
وأقل موارد وخيرات طبيعية، ولنقل أقل تراثاً وحضارة إنسانية، استطاعت أن تكون رائدة
في شتى المجالات الإبداعية بينما بلداننا الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية، ما
تزال تعاني على كافة الصعد... إن الآية الكريمة السالفة من سورة آل عمران حددت
عوامل ثلاثة للنهوض وخلع كل مظاهر الدونية والاستلاب عن الأمّة. وهي الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وأولاً قبل كل شيء الإيمان باللَّه إيماناً حقيقياً، وعملياً،
وعبثاً تبحث الأمة عن مشاريع نهضوية من خارج الحضارة الراسخة في صميم البنية
السيكولوجية والسوسيولوجية للإنسان المسلم. وأخيراً وقبل أن نقاطع البضائع
الأمريكية التي لا بد من مقاطعتها علينا أن نقاطع كل أحاسيس الانجذاب والإعجاب
والانبهار بالخيّال الغربي الذي يثير خلفه الغبار الكثيف ونستبدلها بعزيمة التحدي
المنبعثة من صميم الحضارة الإسلامية والإنسانية الرائدة التي إنما جاءت لتخرج الناس
من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة اللَّه رب العباد، على عكس
الحضارة الغربية التي لم تقم يوماً إلا على حساب الغير، فنهبت خيرات أفريقيا من ذهب
وماس وأخشاب وتركتها للمجاعات والجفاف... وها هي تنهب خيرات بلادنا في غفلة وسكرة
منا... وتسعى جاهدة بكل ما تملكه من وسائل الدمار لتحول العالم إلى قطيع تستحلب
درّته حيناً وتنهش من لحمه ساعة تشاء!!!