الشيخ أكرم بركات
بدأنا في الحلقة السابقة الحديث عن وسائل معرفة الأعلم من
المجتهدين، فذكرنا الوسيلة الأولى وهي ما يفيد العلم الذي من أمثلته ومصاديقه
الاختبار الشخصي من أهل العلم والمعرفة، وقد يكون الشياع بالأعلمية كذلك حينما يكون
مبنياً على أسس موضوعية كما تقدم. ونكمل ذكر الوسائل الأخرى لنتعرض في البداية إلى
الاطمئنان وهل يشكل وسيلة صحيحة لإبراء الذمة بالنسبة لتحديد الأعلم وتقليده؟
* معنى الاطمئنان:
المعنى المعروف للاطمئنان في لغة العرب هو السكون، فالمطمئن إلى الشيء هو الذي
سكنت نفسه إليه ولم يقلق(1)، لذا فمعنى قوله تعالى
﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾(2)
أي سكنوا إليها. وهذا المعنى للاطمئنان كان مناسباً لجعل لفظ الاطمئنان اصطلاحاً
خاصاً لتحديد نسبة ركون النفس إلى ما تواجهه ليمثل الاطمئنان درجة عالية من الركون
هي دون العلم بقليل. وهذا الأمر من نتائج عصر الترجمات من لغة اليونان إلى اللغة
العربية حينما وجدت مصطلحات خاصة في تلك اللغة لم تقابل بمثلها في لغة العرب، فاضطر
المترجمون إلى اختيار بعض الألفاظ المناسبة في معانيها لتكون ترجمة مناسبة
للمصطلحات اليونانية. وكمثال على ذلك ورد في لغة اليونان مصطلحٌ يحدِّد ركون النفس
إلى ما تواجهه بنسبة 100% فاختير لفظ العلم وكذا القطع واليقين مقابل ذلك المصطلح.
كما ورد في لغة اليونان مصطلحٌ يحدِّد ركون النفس إلى ما تواجهه بنسبةٍ هي فوق
الـ50% وتحت الـ100% فاختير لذلك لفظ "الظن" مع أن الظن في لغة العرب يأتي بمعنى
الاعتقاد وقد يكون الاعتقاد قطعياً (بالمعنى الاصطلاحي للقطع) كما ورد في تفسير
قوله تعالى:
﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾
بأن المعنى علم واعتقد أن لن نضيِّق عليه، ومع ذلك استعمل لفظ "الظن" كمصطلح خاص
يوازي ذلك المصطلح اليوناني. وأيضاً في لغة اليونان ورد مصطلح يحدِّد ركون النفس
إلى ما تواجهه بنسبة هي دون ال50ـ% فاختير له في لغة العرب لفظ "الوهم" مع أن لهذا
اللفظ معنى آخر في أساس اللغة كما هو معلوم وواضح. والنتيجة أنَّ عصر الترجمات أنتج
معاني جديدة لألفاظ عربية أضحت مصطلحات خاصة بها وانتشرت بين الناس حتى أن كثيراً
من الناس لم يعد يلتفت إلى المعاني الأصلية قبل ذلك العصر وما عرضناه هو التالي:
المصطلح العربي نسبة ركون النفس إلى ما تواجهه
علم - يقين - قطع 100%
ظن بين 50% و100%
وهم أقل من 50%
ولفظ الاطمئنان لم ينتجْ من هذه التغييرات أو فقل التحديدات للمعاني؛ إذ صار لفظ
الاطمئنان اصطلاحاً لنسبة الظن القوية المتاخمة للعلم كنسبة الـ99% فالاطمئنان في
الاصطلاح هو أعلى درجات الظن، لكنه لا يصل إلى درجة العلم واليقين. وبعد أن عرفنا
معنى الاطمئنان بالتحديد ننتقل لمعالجة السؤال السابق:
* هل الاطمئنان بالأعلمية طريق لإبراء الذمة؟
لنقل أولاً ما معنى "الاطمئنان بالأعلمية"؟ إن معناه هو ركون النفس بنسبة متاخمة
للعلم بأن فلاناً هو أعلم المجتهدين. وهنا لا بد من التركيز على معنى السؤال قبل
الجواب فمقدمة السؤال هو: هل الاطمئنان بالأعلمية طريق لابراء الذمة؟ وليس هل
الاطمئنان إلى الشخص (المجتهد) طريق لابراء الذمة. وإنما نؤكد على هذا لأن البعض قد
يسأل السؤال الثاني فيقول أنا مطمئن إلى فلان فهل يصح تقليدي له؟ ومراده: أنا مرتاح
نفسياً إليه لأنه مثلاً عالم معروف بالتقوى والعمل الصالح مما يوجب ركون النفس
وراحتها إليه. هنا نقول: إن هذا السؤال خاطىء قبل أن تأتي الإجابة عليه لأن
الاطمئنان الصالح للسؤال عنه هو الاطمئنان بأعلمية المجتهد بمعنى حصول ركون النفس
إلى أن الأعلم بين المجتهدين بنسبة عالية متاخمة للعلم واليقين وليس الاطمئنان
بمعنى الارتياح النفسي إلى الآخر. وإلا فقد تحصل هذه الراحة النفسية والركون القلبي
بالنسبة لعالم جليل عامل لكنه غير مجتهد فأين هذا من التقليد الصحيح؟ وعوداً على
السؤال:
* هل الاطمئنان بالأعلمية طريق لإبراء الذمة؟
نجيب: إن بعض الفقهاء لم يذكر الاطمئنان إلى جانب العلم حينما تحدث عن الوسيلة
للتعرُّف إلى الأعلم كما يظهر ذلك من خلال مراجعة كتاب "العروة الوثقى" لآية اللّه
العظمى السيد اليزدي قدس سره مع تعليق عدة مراجع عليه(3) وكما يظهر في كتاب تحرير
الوسيلة للإمام الخميني قدس سره إذ يقول: "يثبت الاجتهاد بالاختبار وبالشياع المفيد
للعلم..."(4) ولم يذكر الاطمئنان إلى جانب العلم. بينما صرَّح بعض الفقهاء بأن
الاطمئنان بالأعلمية هو كالعلم بها في براءة الذمة كما ذكر ذلك ولي الأمر الإمام
الخامنئي دام ظله الوارف في أجوبة الاستفتاءات بقوله: "إحراز اجتهاد أو أعلمية مرجع
التقليد لا بد أن يكون بالاختبار أو بحصول العلم ولو من الشياع المفيد للعلم، أو
بالاطمئنان"(5). والدليل على جعل الاطمئنان بالأعلمية وسيلة شرعية لتقليد الأعلم هو
أن الاطمئنان وإن لم يكن علماً بالمعنى المصطلح وهو ما كانت نسبة الركون فيه 100%
إلا أنه علم عادي، وقد جرت سيرة العقلاء على الأخذ به في أمورهم، فلو لم يكن حجة في
الشريعة لوجب على المعصوم النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام أن يتدخل
ليبيِّن عدم شرعية التمسك به، وبما أن المعصوم عليه السلام لم يتدخل فنكتشف أنه حجة
في الشريعة الإسلامية الغرَّاء. وهذا ما أشار إليه المرحوم آية اللّه العظمى السيد
الخوئي قدس سره بقوله: "كما يثبت بالاطمئنان؛ لأنه علم عادي وهو حجة عقلائية ولم
يردع عنها في الشريعة المقدسة".
* الخلاصة
إلى هنا وصلنا إلى النتيجة التالية:
تثبت أعلمية المجتهد ب:
1 - ما يفيد العلم كالاختبار الشخصي والشياع إن أفاد ذلك.
2 - ما يفيد الاطمئنان كالاختبار الشخصي والشياع إن أفاد ذلك أيضاً، يبقى الحديث عن
الوسيلة الثالثة:
الوسيلة الثالثة: البيِّنة
والمراد منها شهادة عدلين من أهل الخبرة كأن يكونا مجتهدين أو علماء قد تاخم علمهم
الاجتهاد فوصلوا إلى أبوابه ولم يلجوا فيه إلا أنهم أصبحوا قادرين على تمييز الأعلم
من غيره، فإن شهد عادلان من أهل الخبرة على أعلمية مجتهد محدَّد فقد ذكر الفقهاء أن
شهادتهما هذه وسيلة شرعية لتحديد الأعلم وتقليده. وقد سلَّم الفقهاء بشرعية هذه
الوسيلة بناءً على قاعدة مقرَّرة في الفقه الإسلامي هي "أن الموضوعات تثبت
بالبيِّنة" إلا إذا تدَّخل الشرع ليوضح أنه لا يكتفي بالبينة بل يحتاج الأمر إلى
شروط أخرى. "والموضوعات" هنا يراد منها ما يقابل "الأحكام"، فحينما يتحدث الشرع عن
حرمة الخمرة فالحكم هو الحرمة والموضوع هو الخمر أما الحرمة فلها وسائل خاصة
لإثباتها، أما الخمر الذي هو موضوع للحرمة فما هي الوسيلة لإثباته أي لإثبات أن هذا
السائل في هذا الكأس هو خمر. هنا تأتي القاعدة: "الموضوعات تثبت بالبيِّنة" فلو جاء
عادلان أخبرا أن هذا السائل هو خمر فإن كلامهما يكون حجة في إثبات الخمرية. وإذا
عكسنا المطلب وشهد شاهدان عدلان من أهل الخبرة أن هذا السائل هو خل وليس بخمر يكون
قولهما حجة يصح الاعتماد عليها لشرب السائل المذكور. وكون فلان هو الأعلم بين
الفقهاء يعتبر موضوعاً يثبت من خلال البيِّنة كما ذكرنا. ولم يقتصر بعض الفقهاء على
إثبات الموضوع بالبينة، بل قالوا يكفي خبر الثقة الواحد في إثبات الموضوع من دون
حاجة إلى عادلين اثنين، وطبَّق هؤلاء الفقهاء ما قالوه على بحثنا في تحديد الأعلم
فاكتفوا بخبر الثقة الواحد من أهل الخبرة في إثبات الأعلمية كما ذكر ذلك المرحوم
السيد الخوئي قج في منهاج الصالحين(6).
(1) انظر الطريحي، مجمع البحرين ج6 ص277.
(2) 10 7.
(3) العروة الوثقى، منشورات مؤسسة الأعلمي ج1 ص8.
(4) تحرير الوسيلة منشورات دار المنتظر ج1 ص6.
(5) أجوبة الاستفتاءات، منشورات الدار الإسلامية ج1 ص11.
(6) منهاج الصالحين، منشورات دار أسامة، ج1 ص10.