حاول الإمام الخميني قدس سره في أغلب محطات حياته أن يوضح بأن مرحلة الشباب هي
المرحلة الأفضل لإصلاح النفس وأن الشباب نعمة تكون الإرادة فيها قوية وقد أوصى
كثيراً بضرورة اغتنام هذه المرحلة في أغلب وصاياه ومنها لابنه السيد أحمد رضي الله
عنه والتي أرادها للجميع، وهنا مقتطفات من عدة وصايا بهذا الخصوص.
بني:
استفد من شبابك وعش طوال عمرك بذكر
الله ومحبته (جلَّ وعلا). والرجوع إلى فطرة
الله. فذكر المحبوب لا يتنافى مع النشاطات السياسية والاجتماعية في خدمة دينه
وعباده، بل إنّه سيعينك، وأنت تسلك الطريق إليه. ولكن اعلم بأن خدع النفس الأمارة
والشيطان الداخلي والخارجي كثيرةٌ. فما أكثر ما تبعد الإنسان عن
الله باسم الله
واسم الخدمة لخلق
الله وتسوقه نحو نفسه وآمالها. لذا كانت مراقبة النفس ومحاسبتها
في تشخيص طريق الأنانية عن طريق
الله من جملة منازل السالكين. وفّقنا
الله وإياكم
لبلوغ ذلك. وما أكثر ما يخدعنا شيطان النفس نحن الشيّب وأنتم الشبّان بوسائل
مختلفة. فنحن الشيوخ يواجهنا بسلاح اليأس من الحضور وذكر الحاضر فينادي: لقد فاتكم
العمر، وتصرّم وقت الإصلاح ومضت أيّام الشباب التي كان ممكناً فيها الاستعداد
والإصلاح، ولا قدرة لكم في أيام ضعف الشيخوخة هذه على الإصلاح، فقد استحكمت جذور
شجرة الأهواء والمعاصي في جميع أركان وجودكم وتشعّبت فروعها، فأبعدتكم عن اللياقة
لمحضره جلَّ وعلا، وضاع كلُّ شيء! فما أحرى أن تستفيدوا من هذه الأيام الباقية من
أعماركم أقصى ما يمكن الاستفادة من الدنيا.
وقد يتصرف معنا أحياناً بنفس الطريقة
التي يتصرف بها معكم أيها الشبان. فهو يقول لكم: أنتم شبانٌ، ووقت الشباب هذا هو
وقت التمتع والحصول على اللذات، فاسعوا الآن بما يساهم في إشباع شهواتكم، ثم توبوا
إن شاء الله في أواخر أعماركم فإن باب رحمة
الله مفتوح والله أرحم الراحمين،
وكلما زادت ذنوبكم، فإن الندم والرغبة في الرجوع إلى الحق سيزداد، وسيكون التوجه
إلى الله تعالى أكبر والاتصال به جلّ وعلا أشدّ، فما أكثر أولئك الذين تمتعوا في
شبابهم، ثم أمضوا آخر أيامهم بالعبادة والذكر والدعاء وزيارة الأئمة عليهم السلام
والتوسل بشفاعتهم، فرحلوا عن هذه الدنيا وهم سعداء! تماماً هكذا يتصرف معنا نحن
الشيوخ، فيأتينا بأمثال هذه الوساوس فيقول لنا: ليس معلوماً أن تموتوا بهذه السرعة،
فالفرصة ما زالت موجودة وأجِّلوا التوبة إلى آخر العمر، فضلاً عن أن باب شفاعة
الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام مفتوح، وإن أمير المؤمنين عليه
السلام لن يتخلَّى عن محبيه ويتركهم يتعذبون، فسوف ترونه عند الموت، وسوف يأخذ
بأيديكم، وأمثال هذه الوساوس الكثيرة التي يلقي بها في سمع الإنسان.
بني:
أتحدث إليك الآن وأنت ما زلت شاباً. عليك أن تنتبه إلى أن التوبة أسهل على الشبان،
كما إن إصلاح النفس وتربيتها يتم بسرعة أكبر عندهم. في حين أن الأهواء النفسانية
والسعي للجاه وحب المال والغرور أكثر وأشد بكثير لدى الشيوخ منه لدى الشبان. أرواح
الشبان رقيقة شفافة سهلة القياد، وليس لدى الشبان من حب النفس وحب الدنيا بقدر ما
لدى الشيوخ. فالشاب يستطيع بسهولة نسبياً أن يتخلص من شر النفس الأمارة بالسوء،
ويتوجّه نحو المعنويات.
وفي جلسات الوعظ والتربية الأخلاقية يتأثر الشبان بدرجة كبيرة لا تحصل لدى الشيوخ.
فلينتبه الشبان، وليحذروا من الوقوع تحت تأثير الوساوس النفسانية والشيطانية.
فالموت قريب من الشبان والشيوخ على حدٍّ سواء وأي من الشبان يستطيع الاطمئنان وأيٌّ
أنه سيبلغ مرحلة الشيخوخة؟ وأيُّ إنسان مصونٌ من حوادث الدهر؟ بل قد يكون الشبان
أكثر تعرضاً لحوادث الدهر من غيرهم.
بني:
لا تضيِّع الفرصة من يديك، واسع لإصلاح نفسك في مرحلة الشباب.
بني:
إحرص على أن لا تغادر هذا العالم بحقوق الناس فما أصعب ذلك وما أقساه. واعلم أن
التعامل مع أرحم الراحمين أسهل بكثير من التعامل مع الناس نعوذ بالله تعالى أنا
وأنت وجميع المؤمنين من التورط في الاعتداء على حقوق الآخرين، أو التعامل مع الناس
المتورطين. ولا أقصد من هذا دفعك للتساهل بحقوق
الله والتجرؤ على معاصيه. وصيتي
إليك يا بنيّ أن لا تدع الفرصة تضيع من يديك لا سمح
الله . وأن تسعى في إصلاح
أخلاقك وتصرفاتك وإن كان بتحمل المشقة والترويض. وعليك بالحدّ من التعلق بالدنيا
الفانية. وتختار طريق الحق أينما اعترضك مفترقٌ للطرق. وأن تجتنب طريق الباطل،
وتطرد شيطان النفس عنك. أما ما هو أساس نجاة البشرية واطمئنان القلوب، فهو التحرر
والإفلات من الدنيا وتعلقاتها ولا يحصل ذلك إلا بالذكر الدائم للّه تعالى. أولئك
الذي هم بصدد العلو كيفما كان.. سواء العلو في العلوم، حتى الإلهية منها، أو في
القوة والشهرة والثروة إنما يسعون في زيادة آلامهم. المتحررون من القيود المادية
الذين خلصوا أنفسهم إلى حدٍ ما من شَرَك إبليس، هم في هذه الدنيا في سعادة وجنة
ورحمة..
بني:
أما أنا فقد فاتتني القافلة "يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل".
لكن أنت لديك نعمة الشباب وقوة الإرادة. فالمؤمل أن تستطيع سلوك طريق الصالحين.
بني:
لا تُلقِ عن كاهلك، حمل المسؤولية الإنسانية التي هي خدمة الحق في صورة خدمة الخلق.
فإن جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست بأقل من جولاته وصولاته بين
المسؤولين والمتصدين للأمور (العامة). ولا تتعب نفسك للحصول على مقام مهما كان
سواءً المقام المعنوي أم المادي متذرعاً بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهية
أكثر.. أو أني أريد أن أخدم عباد
الله. فإن التوجه إلى ذلك من الشيطان.. فضلاً عن
بذل الجهد للحصول عليه. الموعظة الإلهية الفريدة، اسمعها بالقلب والروح، واقبلها
بكل قوتك وسر في خطها. "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى". الميزان
في أول السير هو القيام للّه، إنْ في الأعمال الشخصية والفردية أو في النشاطات
الاجتماعية. إسعَ أن تكون موفقاً في هذه الخطوة الأولى.. فإن ذلك في أيام الشباب
أسهل وإمكانية التوفيق فيه أكثر.
بني:
الذنوب، حتى إذا كانت صغيرة بنظرك، لا تستخف بها "انظر إلى من عصيت" وبهذا المنظار
كل الذنوب عظيمة وكبيرة. لا تغتر بأي شيء، ولا تغتر بالله تبارك وتعالى الذي كل
شيء منه وإذا انقطعت عنايته الرحمانية عن موجودات جميع أرجاء عالم الوجود لحظة لن
يبقى أثر حتى من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين. لأن كل العالم مظهر
رحمانيته جلّ وعلا. على أي حال، لا تنسَ حضوره ولا تغتر برحمته. كما يجب أن لا تيأس
ولا تغتر بشفاعة الشافعين عليهم السلام. فإن لذلك كله موازين إلهية ونحن لا نعرفها.
إجعل التأمل في أدعية المعصومين عليهم السلام وتحرُّقهم وتفجّعهم خوفاً من الحق
والعذاب عنوان أفكارك وسلوكك.
بني:
لا تسعَ أبداً إثر تحصيل الدنيا حتى الحلال منها. فإن حب الدنيا حتى حلالها رأس
جميع الخطايا لأنها حجاب كبير وتجر الإنسان مرغماً إلى الدنيا الحرام. أنت شاب
وتستطيع بقوة الشباب التي أعطاك الحق أن تبتر أول خطوة انحراف ولا تدعها تنجر إلى
خطوات أخرى. لكل خطوة خطوة تتبعها، وكل ذنب حتى إذا كان صغيراً يجر الإنسان إلى
ذنوب كبيرة وأكبر بحيث تصبح الذنوب الكبيرة في نظر الإنسان ليست شيئاً يذكر. بل
أحياناً يفتخر الأشخاص على بعضهم بارتكاب بعض الكبائر. وأحياناً بواسطة شدة الظلمات
والحجب الدنيوية يصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً. ابذل جهدك في خدمة الأرحام
خصوصاً أمك التي لها علينا حقوقٌ واحصل على رضاهم.
بني:
اسع للعثور على نفسك المعجونة بفطرة
الله، واستنقذها من مستنقع الضلالة وأمواج
العجب والأنانية، واركب "سفينة نوح" التي هي "ولاية
الله" "فإن من ركبها نجا ومن
تخلّف عنها هلك".
بني:
اجهد أن يكون سيرك في "الصراط المستقيم" صراط
الله وإن كان ذلك بخطىً وئيدة بطيئة.
واسعَ أن تكون حركات قلبك وسكناته وسائر جوارحك في إطار التسامي والارتباط بالله.
واحرص على السعي في خدمة الخلق لأنهم خلق
الله، فرغم أن أنبياء
الله العظام
والخواص من أوليائه تعالى كانوا يمارسون الأعمال كالآخرين، فإنهم لم يتعلقوا
بالدنيا قط، وذلك لأن شغلهم كان بالحق وللحق. ولدي، ما أوصيك به بالدرجة الأولى هو
أن لا تُنكر مقامات أهل المعرفة، فالإنكار سُنَّةُ الجُهال: واتَّقِ مُعاشرة مُنكري
مقامات الأولياء، فهم قُطَّاعُ طريقِ
الله تعالى. واختر في خدمة عباد
الله ما هو
الأكثر نفعاً لهم وليس ما هو الأنفع لك ولأصدقائك، فمثل هذا الاختيار هو علامةُ
الإخلاص للّه جلَّ وعلا. ولدي العزيز: إنّ
الله حاضرٌ، والعالم محضره، ومرآةُ
نفوسنا هي إحدى صحائف أعمالنا، فاجتهد لاختيار كلِّ عمل يُقربك إليه، ففي ذلك رضاه
جلَّ وعلا.
بني:
اسع في إصلاح نفسك ما دمت تحظى بنعمة الشباب، فإنَّك ستخسر كل شيء في الشيخوخة.
فمن مكائد الشيطان (ولعلها أخطر مكائده) "الاستدراج". ففي أوائل الشباب يسعى شيطان
الباطن أشدُّ أعداء الشباب في ثنيه عن إصلاح نفسه ويمنّيه بسعة الوقت، وأن الآن هو
آن التمتع بالشباب، ويستمر في خداعه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح
تماماً. وساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم يتصرّم الشباب، ويرى الإنسان نفسه فجأة في
مواجهة الهرم الذي كان يؤمِّل فيه إصلاح نفسه، وإذا به ليس بمنأى عن وساوس الشيطان
أيضاً. إذ يمنّيه آنذاك بالتوبة في آخر العمر لكنه حينما يحُسُّ بالموت في آخر
العمر، يصبح الله تعالى أبغض موجود إليه، لأنه يريد انتزاع الدنيا التي هي محبوبه
المفضَّل منه.
عزيزي: إقرأ أدعية الأئمة المعصومين عليهم السلام وانظر كيف أنّهم يعتبرون
حسناتهم سيئات، وكيف يرون أنهم يستحقّون العذاب الإلهي، ولا يفكّرون سوى برحمة الحق
تعالى.