الحلقة الأولى
* ما هي الطرق المؤدية إلى المعرفة الخاطئة؟
إن تحصيل الكمالات الإنسانية وأصل الفضائل الأخلاقية بنظر الإسلام هو الإيمان بالله
سبحانه وتعالى وانعقاد الإيمان بالله تعالى مشروط بالعلم والمعرفة، فتحصيل العلم هو
أمر اختياري وواسطة للوصول إلى الإيمان وكذلك الفضائل الأخلاقية هي مقدمة للإيمان،
ولأجل الوصول إلى هذا الهدف لا بد من سعي مناسب جوارحي وجوانحي لنيل العلم الصحيح
والمعرفة الواقعية. الفكر السليم والتدبر والتعقل أمور أساسية في تحصيل العلم
الصحيح والمعرفة الواقعية، حيث يؤكد الله سبحانه وتعالى كذلك الأنبياء والأئمة
عليهم السلام على هذه الأمور حيث، يقول تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
الملك/ 10.
فالذين لا يتفكرون ولا يهتدون بالأنبياء والأولياء و... ولا يستمعون لهم لا يمكن
لهم بأي وجه كان أن يحصلوا على السعادة الحقيقية ولا تحصل عندهم المعرفة الواقعية
وفي النهاية لا يصلون إلى مرتبة الإيمان الحقيقي يقول سبحانه وتعالى أيضاً:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ﴾
الأعراف/ 179. فالقرآن يشير في مواضع متعددة إلى الموانع والعوامل التي تحول
دون المعرفة، وبشكل كلي موانع المعرفة تنقسم إلى قسمين: المجموعة الأولى عبارة عن
المعارف التي تمنع من التفكر أو تضعف التفكر. والمجموعة الثانية هي الميول التي
تحول دون المعرفة الصحيحة والبحث هنا في هذه الحلقة يدور عن النوع الأول:
أولاً: المعارف التي تحول دون الفكر والتفكر الصحيح:
1ـ المعرفة المادية:
فمن مجموعة المعارف المانعة هذا النوع من المعرفة العقلائية بلحاظ معين. فالإنسان
بطبيعته كونه يعيش في عالم الطبيعة يأنس كثيراً بالمحسوسات وقنوات المعلومات عنده
يكون معظمها من هذا النوع. وبما أن هذا النوع من المعرفة سهل وميسر، وكل معرفة
يسيرة ولا تحتاج إلى العناء والتعب تكون اقرب إلى الإنسان، من هنا تنشأ العلاقة
الوثيقة بين الإنسان والمحسوسات. فمن هنا كلما ازداد تعلق الإنسان بالمحسوسات تجرأ
في الساحة الإلهية لتصل به الأمور إلى إنكار الله تعالى. وهكذا وصل الحال بهؤلاء
القوم حيث قالوا أنهم لن يؤمنوا حتى يروا الله جهرة. يقول تعالى :﴿لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ البقرة / 55. وفي آية أخرى:
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ
الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾
المؤمنون (32-34). هنا سؤال يطرح نفسه هل إن كل المعارف الحسية هي قبيحة أم
أي منها؟ وللإجابة على هذا السؤال يمكن بهذا الشكل:
أولاً: هو الميل الفكري بشكل مفرط إلى إدراك الأمور بحيث يصبح هذا الميل وتصبح
المعرفة فقط وفقط محصورة بالحس وبالأمور الحسية.
ثانيا: هو الميل العملي المفرط بحيث يصل الأمر إلى جعل المدركات الحسية والمحسوسات
ميدان العمل وتطبيق التجارب والتحاليل ويكون ذلك فقط سلماً للوصول إلى الحقائق
الملموسة، وحينها لا يمكن إثبات الأمور التي ما وراء الطبيعة ونفي كل شيء معنوي
ومجرد. وبدل أن تكون هذه المعرفة موصولة إلى الله تعالى تصبح معرفة مانعة من
المعرفة.
2- التقليد:
نوع آخر من الأشياء التي تمنع عن التعقل وكسب المعرفة الصحيحة هو التقليد. فبدل أن
يأخذنا هذا النوع إلى التفكر والتعقل يجعلنا ننقاد إلى الاعتماد على اعتقادات
الآخرين... فالآيات القرآنية تشير إلى هذا الموضوع بوضوح حيث يقول تعالى:
﴿أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾
الزخرف 21-23. على كل حال فالإنسان بالفطرة مسؤول عن مستقبله ومصيره واختيار
طريقه ولا يمكن لأحد أن يحل مكانه غداً في الحساب. يقول سبحانه:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
وفي آية أخرى :
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ
بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾
(الأعراف /172-173).
إن ما ذكر عن التقليد لا يشمل كل أنواع التقليد بل المقصود هنا هو التقليد الذي لا
ينتج عنه إلا الهلاك والانحراف عن الطريق القويم، فليس دائماً إن التقليد بكل
أشكاله سلبي بل أحياناً وأحياناً كثيرة يكون تقليداً ايجابياً. فالمفروض هنا هو
التقليد الأعمى الذي لا يعتمد على الفكر والتفكر والدقة و... فالتقليد الأعمى هو
كما حصل مع بني إسرائيل يقول تعالى في كتابه المجيد:
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ...﴾
الأعراف / 138-141. عامل آخر من العوامل التي تمنع المعرفة الصحيح. هي
الاعتماد على الظن حيث إن هذا الأمر يحصل تدريجياً عند الإنسان، فالإنسان في حياته
الاجتماعية لا يمكن أن يجزم ويقطع بكل الأمور التي تحيط به، وتحصيل القطع والجزم
بكل الأمور لعله أمر مشكل إلى حد ما. مما يضطر الإنسان إلى ترتيب الكثير من الأمور
على أساس الظن، ويجعل من هذا الظن نوعاً من الجزم والقطع ولا يخشى عواقب ما قد
يترتب على ذلك. هذا الظن في المسائل العادية والمادية لا يشكل مشكلة كبيرة إلى حد
ما، أما الخسارة الكبيرة هي عندما نجعل من هذا الظن قطعاً في مسائل كبيرة وعظيمة.
يقول تعالى:
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ
يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ
لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾
يونس / 34-35. إذاً إحدى الموانع من الوصول إلى المعرفة الصحيحة الاعتماد
على الظن، فالاعتماد على الظن والعادة على ذلك أمر خطير، ولا يمكن أن يوصل إلى
نتيجة صحيحة غالباً، وأما بخصوص الأمور البسيطة والتي أحياناً لا يمكن الجزم فيها
فيمكن اللجوء إلى الظن.
وأخيراً يقول إمام الأمة الخميني العظيم قدس سره: أيها الإنسان المسكين كم ستكون
حسرتك يوم يرفع حجاب الطبيعة عن بصرك وتعاين أن كل ما مشيت له في العالم، وسعيت فيه
كان في طريق مسكنتك وشقاوتك وقد افسد طريق العلاج والجبران وانقطعت يدك عن كل شيء،
وليس لك مجال للفرار من السلطة الإلهية القاهرة.
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا﴾
الرحمن / 33.
أسئلة حول الدرس:
1- كيف إن الإنسان كلما تعلق بالمحسوسات ابتعد عن الله تعالى؟
2- ما هو المعدل من التعلق بالماديات يؤدي إلى الابتعاد عن الله؟
3- ما هو التقليد المذموم؟
4- هل أن الظن يوصل إلى نتيجة ايجابية؟