الشيخ محمد شقير
دروس في الأخلاق ترمي إلى الارتقاء بمستوى الواقع السياسي
لقناعتنا أن القيم الأخلاقيَّة والدينيَّة هي السبيل لإصلاح الواقع السياسي، كما
أنَّها تُسهم في رفد واقعنا العملي بمجموعة من المواعظ المعنويَّة والعِبَر
الأخلاقيَّة التي نراها حاجة ملحّة لكلّ العاملين في سبيل الله تعالى ولأي عملٍ
يهدف إلى تحمّل الأمانة الإلهيَّة وخدمة المجتمع والإنسان.
"إن من ينظر في باطن
الولاية يرى أن باطنها الرحمة وان الولاية إنما كانت رحمة بالخلق وان كل شؤون
الولاية تعود إلى رحمة اللَّه لعباده". وإن كل من يتصدى أمراً من أمور الولاية
ليعمل بين خلق الله تعالى باسم الولاية يجب أن يدرك هذه الحقيقة أن هذا الفرع من
شجرة الولاية إنما يعود إلى ذلك الأصل الذي هو النبي الخاتم صلى الله عليه وآله
الذي ما كانت رسالته إلا رحمة للعالمين. وعليه فهو لم يأخذ بهذا الفرع ولم يمتلك حق
التصرف والفعل إلا ليكون صورة عن ذاك الأصل الذي هو رحمة مهداة وهذا يتم بالتأسي
بهم والتخلق بأخلاقهم حتى يكون زيناً له ولا يكون شيناً عليه. إن من لم يمتلئ قلبه
رحمة ولا ينظر بعين الرحمة إلى خلق الله تعالى لم يدرك بعد سر الولاية ولم يعرف
هدفها وإن من يضيع عليه الهدف الأسمى لن يعرف كيف يتأسى ولن يعرف كيف يسير بين عباد
الله بالتقوى.
إن الله تعالى لم يجعل لك الولاية لتكون مسيطراً على الخلق
﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾
فليست الولاية للتسلط على الناس ولم تكن لفعل شدة أو موقف حدة بل كانت لهدايتهم
وسعادتهم ومصلحتهم في الدنيا والآخرة وهذا يعني أن تتجلى الولاية رحمة في أفعال
أهلها وسلوكهم ومنطقهم وكل حركاتهم وسكناتهم. إن أي قانون أو قرار أو إجراء لا بد
أن يكون حدّه الرحمة لان القانون هو من اجل الرحمة والقرار يجب أن يكون مؤداه إلى
فعل الرحمة فإذا كان بعيداً عنها فإنه لا ينتمي إلى دين الرحمة. انظر إلى حديث رسول
الله صلى الله عليه وآله عندما قال له رجلٌ: أحب أن يرحمني ربي فقال له صلى الله
عليه وآله : "ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله". تأمل في قول رسول الله
صلى الله عليه وآله "ارحم خلق الله يرحمك الله" انه يريد أن يقول أن رحمة
الخلق سبب لنزول رحمة الله. واستمع إلى علي عليه السلام إذ يقول: "رحم الله
رجلاً رأى حقاً فأعان عليه أو رأى جوراً فردّه وكان عوناً بالحق على صاحبه".
إن رحمة الله تعالى تنزل على من يعين على الحق ويكون سبباً لإحقاق الحق ويسعى إلى
أن يعطي كل ذي حق حقه ولو على نفسه، وإن تلك الرحمة تصل إلى من يرفض الجور والظلم
ويسعى إلى رفع الحيف عن خلق الله تعالى. وهذا فعل الولاية وهذا ما يفرض على العلماء
وغيرهم أن يتصدوا لشأن الناس والمجتمع أي من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم والحيف.
توجد صلة وثيقة بين الرحمة وبين إحقاق الحق ودفع الجور إذ أن من أفضل تجليات الرحمة
العمل على إرجاع الحق إلى أهله وأخذه من غير مستحقه ونصرة المظلوم ومعاقبة الظالم
ومراعاة الحق أينما كان أهله. كما أن فعل الحق والسعي إلى إحقاقه ومدافعة الظلم
والجور من أهم أسباب نزول غيث الرحمة على محق الحق ومجريه ورادّ الظلم وناهيه وعلى
كل من أعان عليه وساهم فيه. إن أولياء الله تعالى يدعون لمن بادر إلى ذلك، علي عليه
السلام يدعو له بالرحمة وإن دعوة أولياء الله تعالى لا تخيب، فسعداً لمن نالته دعوة
الأولياء بالرحمة والمغفرة.
كما ورد عنه عليه السلام : "أبلغ ما تستدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس
الرحمة". إن ما يؤدي إلى الرحمة البالغة ليس فقط أن يكون فعلك فعل رحمة بل أن
تسكن الرحمة قلبك وان تستقر في نفسك فتضمر الرحمة إلى جميع الخلق وتكون بالنسبة
إليهم كالوالد الشفيق الذي يؤلمه ألم ولده ويسعده هناؤه ويؤذيه شقاؤه، كما حكى الله
تعالى عن رسوله الكريم صلى الله عليه وآله بقوله:
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ الشعراء/3. إن قلب رسول الله
صلى الله عليه وآله يتألم ويكاد قلبه ينفطر رحمة بأولئك الذين لم يهتدوا إلى سبيل
الإيمان ولم يأخذوا بهدى الرحمن. إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أرقى تجلٍّ
لرحمة الله تعالى حيث كان همه أن يأخذ بيد الخلق إلى سعادتهم وان يقودهم إلى رضوان
الله تعالى وان يدفع عنهم حر النار وأذى جهنم ولذلك قرن الإمام زين العابدين عليه
السلام بين رحمة الله الواسعة وبين شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول
عليه السلام : "لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله، وسعة رحمة الله عز وجل". ويقول
الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف/56.
إن الله تعالى ينهى عن الفساد في الأرض بعد أن أصلحها برسول الله صلى الله عليه
وآله كما فسّرت هذه الآية في الحديث عنهم عليهم السلام فأعظم إصلاح هو إصلاح رسول
الله صلى الله عليه وآله والرواية ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله من باب كونه
المصداق الأعظم لهذه الآية، ولقد حصل ذلك الإصلاح بتلك الرحمة المهداة، ولقد استطاع
صلوات الله عليه واله أن يحقق ذلك الإصلاح في المجتمع والإدارة والسياسة بأخلاق
الرحمة التي يمتلكها وبقلبه الكبير الذي كان يتألم حتى على الكافرين لعدم إيمانهم.
إن خلق الرحمة هذا الذي كان يتجلى في فعل رسول الله وخلقه وفي منطقه وسياسته هو
الذي أدى إلى الوصول إلى كل ذلك الإصلاح الكبير الذي تحدث عنه القران الكريم ولولا
تلك الرحمة لما حصل ذلك الإصلاح وهذا يعني أن أفضل وسيلة لتحقيق الإصلاح والوصول
إليه هو العمل بمنطق الرحمة ومنهجها.
وإذا كان الإصلاح هو هدف الولاية، الإصلاح على المستوى السياسي والاقتصادي والإداري
والاجتماعي - فإن الوسيلة الأفضل هي منطق الرحمة أي منطق رسول الله صلى الله عليه
وآله وعليه لا يغيبن عن قلب من تصدى للإصلاح بين الناس وأخذ بطرف من أطراف الولاية
أنه إذا أراد أن يقوم بوظيفة الأنبياء عليهم السلام وان يتمثل نهج الأولياء عليهم
السلام، فإن الرحمة هي السبيل إلى ذلك، تلك الرحمة التي تتجلى عفواً عند المقدرة
وليناً ومداراة وتحملاً وقد قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وآله
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
آل عمران /159. أنظر إلى قوله تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾،
إن رحمة الله التي سكنت قلب رسوله الكريم هي التي ألانت جانبه لأصحابه وللمؤمنين
ولو كان قاسي الجانب شديداً في منطقه لنفروا منه وابتعدوا عنه "ولو كنت فظاً غليظ
القلب لانفضوا من حولك" حيث أن الفظاظة وغلظة القلب تؤديان إلى ابتعاد الناس ولربما
نفورهم عن الدين والولاية.
إن التعامل الخشن والقاسي والأساليب الفظة والغليظة قد تسهم في حصول الفساد من خلال
أضعاف مجتمع المؤمنين إذا ما ضعفت روح المودة والرحمة في قلوبهم، ولا شك أن ذاك ليس
مرضياً من الله ورسوله. قد يقول قائل إن الإدارة والسياسة لا تنسجمان مع منطق
الرحمة فهما تحتاجان إلى الحزم ولربما الشدة في بعض الأحيان في حين أن الرحمة
تتنافى مع الحزم والشدة. في مقام الجواب نقول أن الإدارة تحتاج إلى الحزم والجدية
والسياسة تحتاج إلى الوعي والمصداقية وهما لا يتنافيان مع الرحمة وتجلياتها لأن
الإدارة الناجحة هي التي تحاول تحريك الطاقات واستثمار الكفاءات لبلوغ الأهداف
المنوي الوصول إليها ولا يوجد أفضل من منطق الرحمة لبلوغ ذلك. أن تبعث الناس
بالإقناع وباللطف والرفق فما يمكن أن يوصلنا إلى نتائج أفضل على مستوى الأهداف
الإدارية. طبعاً لا بد أن يكون هناك دقة ونظام وانضباط والتزام لكن ذلك يجب أن لا
يكون مفصولاً عن خلق الرحمة وسلوك المودة.
وهل هذا يعني ألا يكون محلٌ للشدة على الإطلاق؟
الجواب بالنفي لأنه ربما يحتاج بعض المواقف إلى نوع شدة لكن يجب أن تقدر بقدرها وان
يعرف من هو مستحقها وان يعرف أيضاً أن الرحمة باطنها، لكن إن كان الكلام عن مجتمع
المؤمنين فإن هذا المجتمع يجب أن يكون محكوماً لكل تجليات الرحمة وان تبلغ المعاملة
فيه أعلى مراتبها وهو المراد من قوله تعالى في وصف الذين هم مع رسول الله صلى الله
عليه وآله بأنهم "رحماء بينهم" وإن كان هناك مرتبة أخرى من الرحمة لعامة الخلق
لكنها لا تبلغ مرتبة الرحمة بين المؤمنين. وبالتالي فإن الروايات التي تحدثت عن
الرحمة لجميع الخلق إنما أرادت تلك المرتبة من الرحمة التي يجب أن تبذل لهم مجلبة
إليهم سعادتهم في الدنيا والآخرة أما المرتبة الراقية من الرحمة وتجلياتها فهي خاصة
بالمؤمنين ومجتمعهم ويجب أن تكون مبذولة لهم.