الشيخ محمود كرنيب
لا يخطر ببال منصف ذي ضمير شكّ في أنّ الإمام عليّ بن أبي
طالب عليه السلام، هو بطلُ الإسلام وفدائيُّه، وهو كذلك فدائيّ النبيّ وفدائيّ
العقيدة، وفدائيّ المبادئ والدين؛ بل هو فدائي الملّة والأمّة. وضَع روحه في
راحتَيه أمام كلّ ما سلف منذ أوائل سنيّ عمره. يبيت في فراش النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلمليلة هجرته، يُجاهد الأعداء، وينصح لله مسترخصاً كلّ غالٍ ونفيس في سبيل
الإسلام وشموخه، وعزّته ونقاوته، وصفائه وحقّانيته.
* الأولويّة للإسلام
نرى في سيرته عليه السلام، أنّه جعل للإسلام مقام الصدارة، والأولويّة، في قوله
وعمله، وفي منهجه وسلوكه.
وقدّم مصلحة الإسلام، والوحدة الإسلاميّة على جميع المغانِم والمكاسب. وقد أوضح
ذلك، بما خاطب به أهل الشورى، إذ يقول: "قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ
النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَالله لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ
الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً
لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه
وزِبْرِجِهِ"(1).
* ملامح سياسة عليّ عليه السلام في الوحدة الإسلاميّة
ويمكن لنا، أن نجد في سيرة عليّ عليه السلام وسلوكه ما يؤكّد المبدأ الذي قامت عليه
مواقفه عليه السلام وسياسته. لنلتقط ملامح هذه السياسة المؤكِّدة على مبدأ الوحدة،
حيث يمكن أن نضعها تحت عنوانين لمرحلتين: مرحلة ما قبل الحكم، ومرحلة تولّيه الحكم.
1- السياسة الوحدويّة ما قبل الحكم:
أ- المعارضة الواعية الرساليّة:
عن تلك المرحلة، يقول الإمام عليّ عليه السلام في كتاب له عليه السلام، إلى أهل
مصر، مع مالك الأشتر رحمه الله لمّا ولّاه إمارتها: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ
الله سُبْحَانَه بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم نَذِيراً
لِلْعَالَمِينَ، ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى صلى الله عليه
وآله وسلمتَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِه، فَوَالله مَا كَانَ
يُلْقَى فِي رُوعِي، ولَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا
الأَمْرَ مِنْ بَعْدِه صلى الله عليه وآله وسلمعَنْ أَهْلِ بَيْتِه ولَا أَنَّهُمْ
مُنَحُّوه عَنِّي مِنْ بَعْدِه، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى
فُلَانٍ يُبَايِعُونَه، فَأَمْسَكْتُ يَدِي، حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ
قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله
عليه وآله وسلم، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلَامَ وأَهْلَه أَنْ أَرَى
فِيه ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِه عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ
وِلَايَتِكُمُ، الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا
مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ،
فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ، واطْمَأَنَّ
الدِّينُ وتَنَهْنَه"(2).
يقول أمير المؤمنين عليه السلام، إنّه في بداية الأمر عمَد إلى المعارضة السلبيّة
ولكن السلميّة، بعدم البيعة. ولكن بعد ذلك، رأى خطراً محدقاً بالإسلام وأهله وهم
مدّعو النبوّة. فالخطر وجوديٌّ يتعلق بالإسلام وجوداً وبقاءً، فوجد أنّ عليه أن
يقوم بنصر هذا الدين ويتحمّل مسؤوليّة الدفاع عنه.
وفي نصّ آخر، يعبّر عن موقفه الوحدويّ هذا قائلاً: "إنّ الله لمّا قبض نبيّه
استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيت أنّ
الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد
بالإسلام، والدين يمخض مخض الوَطب(3)، يُفسده أدنى وَهن، ويعكسه أقلّ خلف"(4).
ب- المعارضة الإيجابيّة:
إنّ مواقف الإمام عليّ عليه السلام أيّام حكم الخلفاء قبله، تدلّ على مساندته
للدولة الإسلاميّة كما لو كان هو الخليفة، فكان يسدي النصح ويقدّم المشورة في كافّة
الجوانب العسكريّة، والسياسيّة، والقضائيّة والاقتصاديّة.
يروى أنه حينما أراد أبو بكر غزو الروم، استشار جماعة فقدّموا وأخّروا، ولم يقطعوا
برأي، فاستشار عليّاً في الأمر فقال عليه السلام: "إن فعلتَ ظفرتَ. فقال: بشّرت
بخير"(5).
وقد ذكر الطبري بعض الروايات في الاستعانة بالإمام عليّ عليه السلام في القضاء، بل
إنّه عليه السلام كان يتدخّل أحياناً دون استشارة، ومن ذلك: "أمر عمر برجم امرأة
اعترفت بالفجور، فتلقّاها عليّ عليه السلام وقال مخاطباً: فما سلطانك على ما في
بطنها" فخلّى سبيلها.
وقد عبّر عمر بن الخطاب عن السيرة الإيجابيّة لعليّ عليه السلام، التي لا يبخل فيها
بالموقف العلميّ، والكلمة، والنصيحة، والمشورة، حرصاً على الكيان الإسلامي، ووحدة
المسلمين، وقوتهم، وعزّتهم، ومنعتهم. ومن ذلك قول عمر: "لا أبقاني الله بعدك يا أبا
الحسن"، و"أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن" و"لولا عليّ لهلك
عمر"(6).
ج- عدم الاستدراج إلى الفتنة:
إنّ الإمام عليّاً عليه السلام، على الرغم من أنه كان صاحب حقّ، إلّا أنّه لم يسقط
تحت ضغط هذه القضية ليُستدرج إلى أفعال تؤدّي إلى ضرب الأمّة، وتفريق شملها،
وإلقائها في الفتنة. ومن شواهد ذلك أنه حينما قدم أبو سفيان المدينة قال: "...
والله إنّي لأرى عَجاجة(7) لا يطفئها إلّا دم... أين المستضعفان الأذلان عليّ
والعباس؟". وقال: "أبا حسن، ابسط يدك حتى أبايعك" فزجره الإمام وقال له: "إنّك
والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شراً لا حاجة لنا
في نصيحتك"(8). فالإمام عليّ عليه السلام كان يعرف أهداف أبي سفيان من ذلك كله،
ولذا لم يسمح له باستدراجه إلى ما يؤدّي إلى الفتنة والتقاتل الداخليّ.
2- ملامح السياسة الوحدويّة في زمان حكومة عليّ عليه السلام:
إنّ تجربة حكم الإمام عليّ عليه السلام تتميَّز بوجود أنواع من المعارضين لحكمه،
والمتخلّفين عنه. فمنهم معارضة مقرّة بشرعيّة الحاكم، لكنها تباينه في الوسائل،
والسياسات، والأهداف والأولويّات. ومنهم مَن يعارض أصل مشروعيّة حُكمه عليه السلام
ومنهم الواقفون في الوسط.
وبالمقابل، فقد امتازت تجربة الإمام عليه السلام في الحكم، بإقراره بوجود هؤلاء،
وتعامل معها بواقعيّة، بما قد يرى البعض أنّه إقرار منه بالمعارضة السياسيّة كحقّ
من حقوق أبناء الأمّة الإسلاميّة، على الصعيد السياسيّ.
ويمكن تسجيل المبادئ التالية المستقاة من كلامه ومواقفه عليه السلام:
أ- حقّ الرعيّة في مقاومة الظلم:
وفي النصوص الواردة عنه عليه السلام، ما هو شعار من شعارات هذا الحقّ وعناوينه، إذ
يقول عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام: "وكونا للظالم خصماً
وللمظلوم عوناً"(9). ومن مقولاته المشجّعة على المعارضة الشرعيّة، ما جاء من
مدحه لأهل مصر في رسالة وجّهها إليهم يقول فيها: "من عبد الله عليّ أمير
المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عُصي في أرضه، وذهب بحقّه، فضرب الجور
سُرادقه(10) على البرّ والفاجر والمقيم والظاعن فلا معروف يُستراح إليه ولا منكر
يُتناهى عنه"(11).
ب- عدم القهر والإجبار على الموالاة:
مضافاً إلى اعتراف الإمام عليه السلام بالمعارضة، والتعامل معها كواقع له مبرراته
الإنسانيّة إنْ لم نقل الشرعيّة، فإنّه لم يعمد إلى القوّة لإلغاء المعارضة، وقهرها
على التحوّل إلى الولاء. فنراه دائماً يقدّم النصح قبل أيّ شيء. وعن ذلك يقول عليه
السلام: "معاشر الخوارج، إني جئتكم لأقدم الإعذار والإنذار إليكم، وأسألكم ما
تريدون وتطلبون وتسمعون ما أقول وأسمع ما تقولون"(12). ويقول رافضاً الابتداء
باستخدام القوة: "لا أبتدئكم بحرب حتّى تبدأوا"(13). ومقدّماً الحوار على
القوّة والعنف: "إن تكلّموا حججناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم"(14).
ومن صور عدم الإكراه على الموالاة أنّه لم يستخدم أسلوب الضغط الاقتصاديّ بحرمان
المعارضين من حقوقهم من بيت المال(15).
وقد أوضح الإمام عليه السلام أنّ اللجوء إلى القوّة، لا يكون إلّا بعد فشل كلّ
الأساليب السلميّة، وإصرار الفئة المخالفة على استخدام القوة، واللجوء إلى المواجهة
العسكرية. وهذا ما عبّر عنه بقوله: "وسَأُمْسِكُ الأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ
وإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً، فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ"(16).
وثمّة قيد آخر وأساس لاستخدام القوة، هو عدم مسّ موقف المعارضين بالوحدة حيث قال
عليه السلام: "إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتِي،
وسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ"(17).
ج- عدم تكفير المعارضين له عليه السلام:
على الرغم من أنّ الإمام هو إمام الحق، والخارجين عليه بغاة ظالمون، فإنّه يجعل
الصراع صراعاً بين فئة أهل الحق، وأصحابه، وأهل الباطل المنحرفين عن الحقّ، وعن
أهله، فتارة يقول عنهم: "هم إخواننا بغوا علينا"(18). وأخرى، يؤكّد على
كونهم مسلمين، موضِحاً مبررات النزاع: "إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ
إِخْوَانَنَا فِي الإِسْلَامِ، عَلَى مَا دَخَلَ فِيه مِنَ الزَّيْغِ
والاعْوِجَاجِ، والشُّبْهَةِ والتَّأْوِيلِ. فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ
يَلُمُّ الله بِهَا شَعَثَنَا ونَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيمَا
بَيْنَنَا رَغِبْنَا فِيهَا وأَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا"(19). ولأنّ أخطر ما
يفرّق وحدة الأمّة، ويشتّتها، ويفتح الأبواب مشرعة للحروب، وسفك الدماء، ودمار
الديار، هو تكفير المسلم من يخالفه، ولو أظهر المخالفة بالقتال. فقد نفى أمير
المؤمنين عليه السلامأن يكون قتاله لمن قاتلهم لمجرد تكفيرهم له، أو تكفيره إيّاهم
(20).
* عليّ عليه السلام رجل الوحدة بين المسلمين
بعد ما سبق ذكره، لا يبقى أدنى شك في أنّ الإمام عليّاً عليه السلام، هو أحرص الناس
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمعلى وحدة المسلمين. وقد قدّم، في سبيل ذلك،
من المواقف ما كلّفه الكثير من التضحيات، ودفع الغالي من الأثمان، ولا يزال يدفع
على الرغم من تطاول السنين، وانكشاف الأمور ووضوحها. ولقد كان عليه السلام يرى
دائماً أنّ الدواء النافع، للواقع الفاسد، هو الوحدة. والإمام عليّ عليه السلام هو
الطبيب الذي يعالج الجروح المنفتحة ببلسم الوحدة. فيروى عنه كتاب فيه: "...
وأَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَلَقاً، ولَيْسَ رَجُلٌ،
فَاعْلَمْ، أَحْرَصَ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم،
وأُلْفَتِهَا مِنِّي، أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وكَرَمَ الْمَآبِ،
وسَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي..."(21).
1- نهج البلاغة، من كلام له (74).
2- (م.ن)، كتاب (62).
3- الوَطْبُ: الزقُّ الذي يكون فيه السَّمنُ واللبن.
4- بحار الأنوار، المجلسي، ج29، ص633.
5- تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي، ج2، ص133.
6- ذخائر العقبى، الطبري ص82؛ الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج3، ص339.
7- تاريخ الطبري، ج2، ص237.
8- العَجاج: الغبار، قيل: هو من الغبار ما ثوَّرته الريح.
نهج البلاغة، الخطبة (47).
السُراوق: ما أحاط بالبناء.
(الجامع) نهج البلاغة، كتاب 38، ص522.
المهذّب، ابن البراج، ص322.
تاريخ الطبري، ج4، ص53.
(م.ن).
يراجع: فتوح البلدان، أحمد بن يحيى، ج2، ص395.
نهج البلاغة، الخطبة (168).
(م.ن)، الخطبة (169).
قرب الإسناد، الحميري، ص94.
نهج البلاغة، (م.س)، من كلام له (122).
نقل العلّامة المجلسي في بحاره (ج32، ص 324) عن قرب الإسناد: أن عليّاً عليه
السلامكان يقول لأهل حربه: "إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم نقاتلهم على
التكفير لنا، ولكنّا رأينا أنّا على حقّ، ورأوا أنّهم على حقّ".
(م.ن)، من كتاب له (78).