الإمام القائد السيد علي الخامنئي " دام ظله "
لا يمكن تصوّر حياة أمير المؤمنين عليه السلام، من خلال
إلقاء نظرة نحاول فيها الإحاطة بأحد المحيطات بكل أبعاده، فمن نظرة واحدة لا نحصل
على شيء، وهكذا الحال في مطالعة طويلة قد تكون غير ميسرة للإنسان. في أي طرف
تنظرون، ستشاهدون عالماً من العظمة؛ بحاراً متنوعة الأعماق مختلفة السواحل،
الموجودات المائية المختلفة والمتنوعة، وأشكال الحياة المختلفة وعجائب البحار، ولو
تركنا هذا الجانب ووردنا جانباً آخر من المحيط، لوجدنا أيضاً نفس القصة ونفس
الحديث، وهكذا من الجانب الثالث أو الرابع أو الخامس أو العاشر، من أي مكان ترد،
تشاهد عجائب أيضاً.
هذا مثال واحد قاصر وصغير عن شخصية أمير المؤمنين عليه السلام، انظروا لهذه الشخصية
من أي طرف، سترون أنّ فيها عجائب مخفيّة، وهذا ليس مبالغة، بل هذا صدى عجز الإنسان
الذي طالع لسنين متمادية طويلة حول حياة أمير المؤمنين عليه السلام، أحسَّ بهذا
الإحساس في أعماق وجوده بأنّه لا يمكن إدراك شخصية علي عليه السلام، هذه الشخصية
الرفيعة، بإبراز فهم عادي، يعني نفس وذهن وعقل وذاكرة وإدراك عادي، فمن أي جهة تنظر
سترى العجائب.
هنا أتطرق إلى جانب من حياة أمير المؤمنين عليه السلام وهي تلك الخصوصية التي اعبّر
عنها بـ التوازن في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام ذلك التوازن العجيب في
شخصيته الجليلة يعني صفات متضادة ظاهراً وغير متوافقة في وجود أمير المؤمنين، رتبت
تلك الصفات بشكل جميل بعضها بجانب البعض الآخر بحيث اوجد ذلك لوحده جمالاً، وقد لا
يجد الإنسان أن هذه الصفات قد جمعت مع بعضها البعض عند شخص آخر، صفات متضادة من هذا
القبيل موجودة في أمير المؤمنين عليه السلام إلى ما شاء اللَّه...، ليست واحدة،
اثنان، أنّها كثيرة جداً.
ولهذا يقول الشاعر:
جمعت في صفاتك الأضداد
ولذا قلّ لك الأنداد
والآن نطرح بضعة أمثلة من هذه الصفات المتضادة المتواجدة
جنباً إلى جنب في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام:
رقّة قلب وعزم قاطع إن الرحمة مثلاً ورقّة القلب بجانب القاطعية والعزيمة الصلبة،
لا يتفقان، أمّا في أمير المؤمنين عليه السلام فالعطف والتراحم ورقة القلب في حدّه
الأعلى وهي واقعاً بالنسبة للإنسان العادي، قلما تحدث حالة بهذا الشكل، فمثلاً هناك
الكثير من الأشخاص الذين يساعدون الفقراء، ويزورون العوائل المستضعفة، أما أن الشخص
الذي ينجز هذا العمل أولاً في زمان حكومته وسيطرته على مقدرات البلاد، ويصبح مثل
هذا العمل هو عمله الدائمي واليومي ثانياً، بل لا يكتفي بالمعونة المادية فقط،
ولكنه يذهب إلى هذه العائلة، لذلك الشيخ المسن، لهذا الإنسان الضرير الذي لا يبصر،
ويذهب لهؤلاء الأطفال الصغار يجلس، يؤنسهم وينزل الفرح على قلوبهم، ويساعدهم أيضاً
ويمضي، ذلك هو أمير المؤمنين عليه السلام. كم نفراً تجدون مثل هذه الشخصية في
المجتمع؟ وكم إنساناً بين الناس الرحماء والعطوفين، أمير المؤمنين عليه السلام في
رحمته وعطفه، كان بذلك الشكل، يذهب لبيت الأيتام حاملاً الغذاء لهم بيده، يسجّر
النار في التنور، يخبز الخبز، ويضع بيده المباركة لقمة في أفواه الأطفال لكي
يغذيهم، ليس هذا فقط، بل ولكي يغير حالة الحزن لدى هؤلاء الأطفال نجده يلاعبهم،
ينحني ويضعهم على كتفيه ويمضي بهم صانعاً الابتسامة على شفاههم، يسليهم، حتى يضع
البسمة كوردة باسمة على شفاه هؤلاء الأطفال اليتامى وهم في كوخهم الحقير، هذه
الرحمة وهذا العطف لم نره في ذلك الزمان إلاّ عند أمير المؤمنين عليه السلام.
ولقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يلقم العسل بأصابعه المباركة في أفواه الأطفال
اليتامى والفقراء، وقد قال أحد أصحابه حينما رآه يقوم بهذا العمل: لوددت أن أكون
يتيماً، ليتني كنت طفلاً يتيماً وعلي عليه السلام يلاطفني بهذا الشكل، ويتفضل عليّ،
هذه هي الرحمة والرقة والعطف التي امتاز بها أمير المؤمنين عليه السلام.
بل نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في معركة النهروان، وبعد انتهاء المعركة بنصر
حاسم على الخوارج، نجده عليه السلام يتنقل بين أشلاء القتلى، ولكن لا للتشّفي بهم،
هؤلاء المتعصبون منحرفو الفكر صمموا على هدم أساس الحكومة بأعذار واهية، ولكن علياً
حينما يقابلهم، ينصحهم ويعظهم؛ يعينهم ويوعدهم خيراً، كانوا اثني عشر ألف مقاتل،
يعطي الراية بقوة بيد احد أنصاره ويقول: كل من يأتي في الغد تحت هذه الراية دعه
يذهب، ولكنهم أهل خبرة في الحرب، عادوا، شتموا، ولم يعط أمير المؤمنين عليه السلام
أية أهمية لذلك، لقد كانت لديهم نيّة مبيّتة بالحرب، ولكنهم لم يحاربوا بعد، كان
يقول لهم: اذهبوا إلى أعمالكم، وفعلاً فقد ذهب الكثير ولم يبق إلاّ أربعة آلاف نفر،
وفي هذه الحالة دخلت مرحلة اتخاذ القرار الحاسم، فلا رحمة مع أعداء الله، لذا نراه
يقول لهم: إذا كنتم مصممين، على الحرب، حاربوا، وهو يعلم أنهم سيحاربون، وبعد
انتهاء الحرب وانجلاء الغبرة، قتل جميع هؤلاء الخوارج باستثناء تسعة أشخاص، ولكن
علي يبكي عليهم، فهم أصحاب الجباه السود. إنها الرحمة والعزيمة العلوية، التي لا
يمكن أن تجتمع عند أي قائد.
* ورع وحكومة أمير المؤمنين عليه السلام
نموذج آخر من شخصية أمير المؤمنين عليه السلام ورعه وحكومته عليه السلام، وهو
شيء عجيب جداً، ماذا يعني الورع؟ انّه يعني: إن الإنسان يتجنب كل عملٍ يشك أن له
رائحة مخالفة عن الدين، ولكن هل هناك إنسان يمكن أن يمارس الورع وهو على رأس
الحكومة، وهذا ما مارسه الإمام علي عليه السلام؟
إن خصوصية مثل هذه قلّما توجد عند شخص، والآن عندما أصبحت في موضع كهذا عرفت
كم تصبح هذه المسألة قضية مهمة لو وجدت مثل هذه الحالة عند القائد، فالإنسان يواجه
في الحكومة مسائل كلية، مثل إجراء القانون، والحصول على المنافع الكثيرة؛ ولكن يمكن
أن يتخلف في جزء من الدنيا وفي زاوية من هذا البلد، كيف يمكن أن يراعي الورع
الإلهي؟ في مقابل كل هذه التفاصيل غير القابلة للتصور، لذلك وحسب الظاهر، الحكومة
والورع لا يتفقان ولا يجتمعان؛ ولكن عند علي عليه السلام اجتمعا واتفقا، فأمير
المؤمنين عنده منتهى الورع مع منتهى القدرة على الحكم، جمعهما مع بعض، وهذا الشيء
هو عجيب جداً. إن أمير المؤمنين لا يحابي أحداً ولا تأخذه في الله لومة لائم، لو
رأى أن أحد ولاته لديه ضعفٌ وليس مناسباً لهذا العمل، عزله بدون تردد.
* اقتدار ومظلومية أمير المؤمنين عليه السلام
نموذج آخر، هو قدرة ومظلومية علي عليه السلام، ففي زمان ذلك الجليل، أيُ اقتدار
أكثر من أمير المؤمنين، تلك الشجاعة العجيبة الحيدرية! من هو؟ لم يدَّعِ أي شخص حتى
آخر العمر الشريف لأمير المؤمنين أن له جرأةً للوقوف أمام شجاعة علي، ولكن علي عليه
السلام وهو بهذه القدرة والقوة العجيبة نراه نفس ذلك الإنسان الأكثر مظلومية في
زمانه، بل ربما هو الشخصية الأكثر مظلومية في تاريخ الإسلام. قدرة الإنسان
ومظلوميته، هما شيئان لا يتوافقان مع بعضها، والمعروف أن المقتدر، لا يكون مظلوماً،
أي لا يمكن اجتماع القدرة والقوة مع المظلومية، ولكن أمير المؤمنين عليه السلام كان
مقتدراً وكان مظلوماً في نفس الوقت؟
* زهده وبساطته عليه السلام
نموذج آخر، هو الزهد والبساطة، في حياة أمير المؤمنين عليه السلام، زهدٌ وانصراف عن
دنياه، هو مثل بارز وربما الأكثر بروزاً أو واحداً من ابرز مواضيع نهج البلاغة هو
زهد صاحب نهج البلاغة. نفس أمير المؤمنين، على طول 25 سنة ما بين رحلة النبي صلى
الله عليه وآله ووصوله إلى سدّة الحكم، كان يستخدم أمواله الشخصية، في العمران،
وزرع الحقول، وحفر الآبار، وإنشاء سواقي المياه، عجيب هو، كل هذا أيضاً في سبيل
الله. بقي أن تعلم أن أمير المؤمنين كان واحداً من أكثر أصحاب الموارد الأموال في
زمانه، فهو القائل: "إن صدقاتي لو وزّعت على بني هاشم لوسعتهم"، هكذا كان
عائد أمير المؤمنين من الأموال، ولكن هذا الإنسان ذو الأموال الكثيرة جداً كانت
حياته ومعيشته بسيطة جداً، لأنه كان ينفق أمواله في سبيل الله، ذهب تحت الأرض وحفر
بئراً بيده الكريمة، وعمل الكثير مثل هذه الأعمال.
* عدالة علي عليه السلام
عدل علي بن أبي طالب هو نموذج آخر، حينما تقول أن العدالة توجد عند علي بن أبي طالب
يدرك كل شخص المعنى البدائي لها، انه هو الذي اقرّ العدالة الاجتماعية في المجتمع،
هذا هو العدل؛ أمّا العدل الأعلى هو نفس التوازن، "بالعدل قامت السموات والأرض"،
يعني نفس التوازن في الخلقة، وهو الحق نفسه والعدل والحق في النهاية هما شيء واحد
ومعنى واحد وحقيقة واحدة، في حياة أمير المؤمنين خصائص هي مظهر لهذا العدل
والتوازن، كل الأشياء المناسبة في مكانها المناسب، انّه جمال الحضور في حدّه
الأعلى.