تحقيق: الشيخ إبراهيم حسن
"الأخ العزيز والحبيب والغالي، والذي كان لي شخصياً منذ
العام 1977 أخاً في الروح وزميلاً في الدراسة منذ النجف الأشرف، ورفيقاً مخلصاً على
طول الطريق...".
بهذه الكلمات عبّر سماحة الأمين العام في حفل تأبين سماحة الشيخ محمد خاتون عن
علاقةٍ تختصر مسيرة عمرٍ ملؤه العلم والجهاد والتضحية والعطاء، إلى أن أذنت له
المشيئة الإلهيّة أن يرقد بسلام...
*أوّل خيوط الفجر
هو سماحة الشيخ محمّد علي خاتون، سليل بيت العلم والأدب، فوالده الشاعر علي خاتون
رحمه الله، وجدّه لأبيه هو الفقيه الشيخ محمد علي خاتون رحمه الله، كما إنّ جدّه
لأمّه هو المرحوم العلّامة السيّد نور الدين نور الدين رحمه الله، الذي قال إنّ
الفضل في نشأته الدينيّة يعود إليه.
وُلد الشيخ خاتون في جويّا من قرى جبل عامل عام 1956م، وفيها تلقّى دراسته
الابتدائيّة والمتوسّطة، ليكمل دراسته الثانويّة متنقّلاً بين صور وتبنين، حتى يحين
العام 1977م، حيث امتلأ شوقاً إلى طلب العلوم الدينيّة، فشدّ رحاله إلى النجف
الأشرف، التي احتضنته احتضان الأمّ الرؤوف، فدرس على أبرز أساتذتها وعلمائها، وكان
من بينهم الشهيد السيّد عباس الموسوي رحمه الله، الذي صار من وقتها رفيق دربه.
*النجف الأشرف ونقطة التحوّل
على الرغم من أن إقامته فيها لم تطل، فقد شكّلت النجف الأشرف محطّةً مفصليّةً في
حياة الشيخ رحمه الله، وفيها ارتبط بكبار العلماء، أمثال الإمام الخميني قدس سره
والسيّد الشهيد محمد باقر الصدرقدس سره، مضافاً إلى نقطة التحوّل التي أشار إليها
بقوله: "كانت نقطة التحوّل عندي هي التعرّف إلى الشهيد السيّد عبّاس الموسوي
رحمه الله، وهذا ما أعتبره من الأقدار الإلهيّة والتوفيقات الربّانية العظيمة،
فالسيّد عبّاس رحمه الله لم يكن إنساناً عادياً على الإطلاق. ثمّ إنّ له الفضل
الأكبر في تعلّقي بالإمام الخميني قدس سره، من خلال تعريفنا بأبعاد شخصيّة الإمام
قدس سره، ومن خلال ذلك المدماك الأساس الذي وضعه في قلوبنا، أعني حبّ الإمام قدس
سره والتمسّك بطاعته وحسن الانقياد له"(1).
ولم تدم رحلة النجف إلّا عامّاً واحداً، ولكنّ اللقاء تجدّد مع السيّد عبّاس
الموسوي رحمه الله في الحوزة الدينيّة في بعلبك.
*بعلبك.. غرسة العلم والجهاد
شكّلت بعلبك -بدورها- محطّة هامّة في حياة الشيخ رحمه الله، حيث آثر من حينها
ملازمة "السيّد الشهيد"، وكان هذا التعبير الذي يحلو له أن يستخدمه دائماً بحقّ
السيّد عبّاس الموسويّ رحمه الله. لازمه طالباً على يديه ثمّ مدرّساً في حوزته، كما
لازمه في العمل الثقافيّ التبليغيّ، وفي خدمة الناس والمحتاجين، حالّاً معه في أكثر
الميادين، ومشكّلاً مع زملائه (وفي مقدّمتهم سماحة السيّد حسن نصر الله) مجموعة
علميّة نشطة، تستقي فكرها من النبع الزلال للإسلام الأصيل، وتبلّغه إلى الناس
بالقول والعمل، حتّى إذا حان العام 1982م كانت تلك المجموعة النواة الأولى لانطلاقة
المقاومة.
وقد برز سماحة الشيخ خاتون منذ البداية في جِدِّه في الدرس والتحصيل، كما برز في
التدريس والتبليغ، مترجماً أجمل مظاهر توقّد الذهن وحيوية الحركة والعطاء. استقرَّ
سماحته في بعلبك سنواتٍ طويلة، وأضاف إلى شرف تتلمذه على السيّد الشهيد عبّاس
الموسويّ رحمه الله ومرافقته له، شرف مجاورته له، حيث كان يسكن معه في البناية
ذاتها. وعلى كلٍّ فإنّ إقامته في بعلبك لم تقصر نشاطه على منطقة البقاع؛ وإنّما ظلّ
يتنقّل بين البقاع والجنوب وبيروت، ملبّياً حيث يأتيه النداء، عاملاً مكدّاً في
عمله، متفانياً في إخلاصه، حتى صارت السيارة -كما عبّر أحد أقاربه- محلّ سكنه
اليوميّ!
*ميزاتٌ... وخلقٌ كريم
كان للشيخ خاتون كثيرٌ من المميّزات التي كانت محلّ التفات الجميع، منها علاقته
بالقرآن الكريم. وفي هذا المجال تقول الحاجة عفاف الحكيم (وهي أخت زوجة الشيخ رحمه
الله): "كانت لديه عناية خاصّة بكتاب الله تعالى. لقد كان قارئاً وفاهماً
وحافظاً للقرآن. وعليه فقد كان منطقه القرآن، يجذب السامعين بكلماته ودروسه وخطبه
التي كانت مليئة بالآيات الكريمة، مضافاً إلى علاقته بنهج البلاغة، وهذا ما كان
ملحوظاً في استشهاده الدائم به في الخطابات والدروس والمحاضرات".
كما كان الشيخ معروفاً بمواظبته على الدعاء والعبادة، فكان يواظب -كما نُقل- على
قراءة سورة ياسين كلّ صباح، مع قراءة زيارة عاشوراء والزيارة الجامعة ودعاء العهد
وزيارة آل ياسين، وتنقل عنه الحاجة عفاف الحكيم قوله: "من الصعب على المرء أن يعلم
أيّ الأدعية لها تأثير على نفسه؛ فتأثير الدعاء يختلف من شخص إلى آخر، ولذا، فمن
الأفضل أن يقرأ الإنسان جميع الأدعية المأثورة ولو بالسنة مرّة أو في العمر مرّة".
ويُضاف إلى هذا وذاك خُلُقه الكريم؛ إذ كان يملك خُلُقاً رفيعاً وقلباً صافياً
مفعماً بنور الإخلاص والمحبّة للناس، فقد كان يتقن حسن الظنّ بالآخرين ويوجد
الأعذار لهم فلا يحمل ضغينةً أو غلّاً تجاه أحد، ولذا كان محبوباً جداً ومؤثّراً
جداً، وكانت جلساته متّصفةً باللطافة والفائدة، كما كانت أحاديثه محلّ سرور الصغير
والكبير. كما كان شديد التواضع. وكم التقينا به ماشياً في الطرقات لا يبخل بإرشاد
مستنصح ولا بالإجابة عن مسائل الناس، ولا بمدّ يد العون لمن احتاج مهما أمكن.
*النفسُ المطمئنّة
شاءت الإرادة الإلهيّة أن يصاب سماحة الشيخ رحمه الله بمرضٍ عضال لم يُكتشف إلّا
قبل ثلاثة أشهر من وفاته، فكان أوّل ما قام به سماحته رحمه الله زيارة المقامات
المقدّسة في مشهد وفي النجف وكربلاء، وعاد ليبدأ العلاج بكلّ طمأنينة وتسليم
وتوكّل.
لقد كانت الأيام الأخيرة شاهدةً على تسليمه وطمأنينته اللامتناهية، قائلاً لمن
حوله: "إذا كان الله قد جعل خاتمة حياتي بهذا المرض فالحمد لله، وإذا كان قد كتب
لي الشفاء فأكون قد تعلّمت الصبر، فالحمد لله كذلك".
من الملفت أنّ من أكثر ما تأثّر به الشيخ خاتون رحمه الله كلمة قالها الإمام
الخميني قدس سره وظلّ الشيخ رحمه الله يبكي كلّما تذكّرها: "بقلبٍ هادئٍ، ونفسٍ
مطمئنّة، وضمير يأمل فضل الله -تعالى- أستودع الإخوة والأخوات، وأغادر نحو المقرّ
الأبديّ...". ومن الملفت أيضاً أنّ تلك الكلمة أثّرت في روح الشيخ خاتون، فكان -كما
الإمام قدس سره- ذا قلبٍ هادئ ونفــــسٍ مطمئنّة، حتّــى اختـــاره الله إلى جواره
ليل الاثنين 21/12/2015، فعرج إليه ولسان الحال يردّد الكلمات التي كان قد نظمها هو
في رحيل والده:
كُتب الموت على الخلق ولم | تُكتب الزلفى لغير المتّقين |
نوديت أرواحهم طوبى لكم | فادخلوها بسلامٍ آمنين |
1- من مقابلة أجريت مع سماحته، بتاريخ 18/2/2013.