عند التدقيق في أسباب انحراف الإنسان عن مساره الطبيعي الذي يؤدي به إلى الكمال والسعادة الحقيقية، تبين لنا أن سبب ذلك هو الانحراف عن المنهج الإلهي والذي يتمثل بالفهم الحقيقي عن الدنيا والآخرة، فالفهم الخاطئ عن حقيقة الدنيا والآخرة يؤدي بنا إلى الضياع والانحراف.
والمناهج التي تؤدي إلى فهم الدنيا والآخرة متعددة:
منها التعلق بالدنيا تعلقاً شديداً.
ومنها ترك الدنيا تركاً صوفياً.
ومنها جهل حقيقة الآخرة وعدم اليقين بذلك..
فلكي نصل إلى السعادة الحقيقية لا بد لنا من اعتماد المنهج السليم في التعاطي مع مسألة الدنيا والآخرة:
* ما هي حقيقة الدنيا والآخرة؟
جاء في بعض الروايات أن الدنيا مذمومة، وفي البعض الآخر كانت الدنيا مورد مدح واحترام، فما هو ملاك أو معيار النظرة للدنيا والآخرة؟ هناك نظرتان لهذا الموضوع:
1- نظرة استقلالية.
2- ونظرة آلية.
أما النظرة الاستقلالية فهي اعتبار أن الدنيا هي الأصل في حياة الإنسان وأن للإنسان الحق الكامل في التصرف والتدبر ولا أثر يترتب على مسيرة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ولا علاقة للدنيا بالآخرة إطلاقاً، فكل عالم هو في شأن وطبعاً إن هذه النظرة هي نظرة خاطئة مئة بالمئة، يعني يمكننا القول أن هذه النظرة تعبر عن أن الدنيا إنما هي الهدف بحد ذاتها والآخرة شيء آخر. أما النظرة الآلية هي أن تصبح الدنيا وسيلة وآلة للآخرة والهدف شيء آخر وهو الآخرة بحد ذاته وهذه النظرة ممدوحة إلى حد ما في حال أن هذا الإنسان استغنى كلياً عن الدنيا وسوف يأتي شرحه. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في الكلمات القصار: "دار غنىً لمن تزوَّد منها" و"دار موعظة لمن اتَّعظ بها"، ويقول عليه السلام أيضاً: "مسجد أحباء الله"، "مصلى ملائكة الله" و"متجر أولياء الله" و"فمن ذا يذمها". وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام : "بالدنيا تحرز الآخرة"، فالآخرة تحتاج إلى العمل مسبقاً ودار وميدان العمل يحتاج إلى الدنيا لتكون ميدانه، فالأصل أن الدنيا هي وسيلة تقرب من الله تعالى، وليس معنى ذلك أن لا نستفيد منها إطلاقاً وسيأتي توضيح بهذا الشأن.
* ما هي حقيقة متاع الحياة الدنيا والميول؟
إن في قلب كل إنسان منَّا ميلاً نحو الجمال والكمال والزخارف والبهارج وكل هذا متوفر في الدنيا بشكل بسيط بل هو ليس إلاَّ مؤشراً على جمال الآخرة، وبهارجها وزخارفها، أراد الله تعالى من خلال هذا أن يمتحن هذا الإنسان ويبلوه فيها ليبني فيها الصالح من الطالح، يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً﴾الكهف/8. فالمقصود من وجود هذه اللذات والميول عند الإنسان هو أن يبصر أن الجمال والكمال والسعادة ليست في هذه الزخارف الفانية إنما هي في الآخرة، لا لينظروا إليها بعين الاستقلال وينسوا بها ما وراءها، ويأخذوا الطريق مكان المقصد في حين أنهم سائرون إلى ربهم، ومن يأخذ بذلك فهو مغفل أخذ بالوسائل على أنها الهدف، وما هي إلاَّ ذرائع ومقدمات إلى رضوان الله تعالى. يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾. إذاً فظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد لا يستند إلى الله سبحانه، فان الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة، فكل هذا ليس لأن يتخذ الإنسان الدنيا فتنة له، بل إن الله تعالى أذن للدنيا بأن تتم أمر الفتنة وليميز الطيب من الخبيث بقوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ العنكبوت/4.
وبالجملة التزيين تزيينان:
1- تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة وابتغاء مرضاة الله في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال والجاه والأولاد والنفوس، وهو سلوك إلهي حسن نسبه الله تعالى إلى نفسه كما قال: ﴿إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ وكقوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ الأعراف/32.
2 - وتزيين لجلب القلوب وإيقافها على الزينة وإلهائها عن ذكر الله وهو تصرف شيطاني مذموم، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان وحذَّر عباده منه كما مرَّ من قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
* ما هي حقيقة الآخرة؟
يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾، إن معظم التفاسير تؤكد على أن تفسير هذه الآية الكريمة تدل على أن الحياة الحقيقية والسعادة والكمال ليس في هذه الدنيا إنما هو في تلك الدار، يعني الآخرة، فكل ما يسعى إليه الإنسان في هذه الحياة إنما هو للوصول إلى السعادة والكمال الحقيقي، ولا يتحقق ذلك في هذه الدنيا إطلاقاً والله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً في هذه الدنيا عبثاً فكيف هو الهدف من خلقه هذا الإنسان، أليس هو معرفة الله تعالى حيث يقول تعالى في حديث قدسي: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف.."، يتضح هنا أن الهدف من خلقة الإنسان هو معرفة الله تعالى، يعني القرب من الله تعالى يعني السعادة والكمال، وهذا لا يتحقق إلاَّ في دار مملوءة بالسعادة والكمال، ألا وهي الآخرة، لعل ما ذكر هو جانب من الجوانب التي تؤكد على أهمية الآخرة والسعي إليها واتخاذ الدنيا وسيلة إليها.
* أنواع الدنيا:
يقول مولى المتقين علي عليه السلام : "من أبصر فيها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته". وقد جاء في كتاب بحار الأنوار عن الإمام السجاد عليه السلام : "الدنيا دنيتان: دنيا بلاغ ودنيا ملعونة" بمعنى أن هناك دنيا تأخذ بيد الإنسان إلى الله تعالى ودنيا أخرى تجعل الله تعالى يلعنه فيها، فأي منهما يوصل إلى الله تعالى؟ فالدنيا التي نجعلها أداة للوصول إلى الله تعالى فهي الدنيا الممدوحة، والتي لا توصل بل هي الهدف فهي دنيا مذمومة. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله : "... الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلاَّ من ابتغى به وجه الله"، إذاً الدنيا ملعونة إلاَّ ما قصد فيها لوجه الله تعالى، لأن كل ما فيها يغر ويغش إلاَّ ما استعمل لأجل الوصول إلى الله تعالى.
أسئلة الدرس:
1- ما هي حقيقة الدنيا؟
2- هل أن الميول والرغبات الموجودة عند الإنسان للدنيا تتنافى مع المفهوم الحقيقي للدنيا؟
3- كيف تفسّر تقسيم الدنيا إلى نوعين؟