الشهيد السيد عباس الموسوي قدس سره
يجب أن ننطلق من مدرسة الإمام الحسين عليه السلام لنتعرّف إلى مبادئ الثورة ورجالها، ولنميّز رجال الثورة الحقيقيين من أعدائها المزيّفين. يجب أن ننطلق من مدرسة الإمام الحسين عليه السلام لمعرفة ما يتعلق بدنيانا وآخرتنا على حدٍ سواء. وسأنطلق في هذه الكلمة من المبادئ نفسها التي انطلق منها الإمام الحسين عليه السلام.
*عرفوا هويّة الإسلام
ليس الحسين عليه السلام ديناً جديداً، وإنما هو إمام آمَنَ بالإسلام، وعَرَف الهويّة الحقيقيّة له.
فالإسلام هو دين الله تبارك وتعالى الذي يتضمن الاستسلام الكامل لله عزّ وجلّ. ولذلك فإنّ أول ما يجب عليك - كإنسان مسلم - أن تستسلم لله عزّ وجلّ. ولعلّنا نستطيع أن نفهم هذه الصورة جيّداً عندما نقرأ سيرة الرّسل والأئمة عليهم السلام والأولياء.
اقرأوا في كتاب الله كيف كانت علاقة إبراهيم عليه السلام مع ربه: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 79). وعندما طُلب منه أن يذبح ولده إسماعيل، استسلم لأمر الله عزّ وجلّ، ولم يحد عن طاعته قيْد أُنملة.
ثمّ اقرأوا كيف كان موسى عليه السلام يحمل عصاه، ويرعى الغنم والماعز والأبقار، ثمّ يأتيه أمر لا يستطيع أن ينفّذه إلا من استسلم لله عزّ وجلّ: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (طه: 24). فقد أريد له أن يواجه أعظم قوة في ذلك العصر، حضارة الفراعنة التي تخطّى جبروتها أقصى الحدود!
ثم اقرأوا سيرة أشرف خلق الله محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نعتبره أسوتنا وقدوتنا. لقد جاهد في مكة، ثمّ طردته قريش، فتَوجّه إلى الطائف، ثمّ طرده أهلها، وجرحت قدماه الشريفتان، وأدميتا حتى وقع مغمياً عليه، وأصبح وحيداً فريداً بين مكة والطائف، فماذا تنتظرون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الوضع؟
لقد توجّه إلى الله عزّ وجلّ فوراً، ثم قرأ هذا الدعاء: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهَّمني؟ أم إلى عدو ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلَّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلّا بك" (1).
*التسليم سمة الأنبياء
إنَّ التسليم والخضوع والخشوع بين يدي الله عزّ وجلّ، هي من سمات الأنبياء، ولذلك لم تكن تساوي المعاناة في حياة الأنبياء شيئاً، لأنَّها تنتهي عند ساعة اتصال بينهم وبين الله تبارك وتعالى.
كما نجد هذه السمة واضحة في شخصية أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ومنذ اليوم الأول الذي خرج فيه من المدينة إلى يوم الشهادة في كربلاء.
وصل خبر يزيد بن معاوية إلى الإمام الحسين عليه السلام، وهو في المدينة المنورة، وعرف أن يزيدَ يطلب البيعة، فماذا فعل؟ وهل اجتهد مِن عِنده؟
أراد الإمام عليه السلام أن يختار الطريق، وهو أمام وضع صعب، فترك كلّ الناس وتوجّه إلى قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. جلس أمامه يبكي، وهو يقول: "اللهم إنّ هذا قبر نبيّك وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إنّي أحب المعروف وأُنكر المنكر، أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق هذا القبر ومن فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى" (2). لقد طلب إمامنا من الله بحق رسوله أن يختار له الطريق. ثم نقرأ أنَّه عندما سقط من على ظهر فرسه بعد أن استحال عليه القيام والقتال ردّد التالي:
تركت الخلق طراً في هواك | وأيتمت العيال لكي أراك(3) |
*النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّه عليه السلام: تسليم لولاية الله
فالتسليم المطلق هو سمة ميَّزت شخصيّة إمامنا الحسين عليه السلام. وهي التي يجب أن تطبع كل أعمالنا كمؤمنين على امتداد التاريخ. وإذا كنّا نؤمن بولاية الله، فيجب أن نعيش مع الله استسلاماً مطلقاً وكاملاً. ولذلك عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّه يعيشان الاستسلام الكامل لولاية الله عزّ وجلّ، كان المطلوب من الأصحاب والمؤمنين حولهما أن يلتزموا بهذه الولاية.
أتمنى عليكم أن تلاحظوا هذه المسألة بين معصوم ومعصوم آخر، ألم يكن علي بن أبي طالب عليه السلام إماماً معصوماً؟ ولكنَّه كان في زمن ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرّد جندي، لا يقف نداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنَّما يتعامل معه بولاء مطلق.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعدُّ علياً باستمرارٍ كجندي في عسكره، فلما عجز الجميع عن فتح خيبر، بشّرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه سيرسل في الغد رجلاً كراراً غير فرّار، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلهج بكلمة واحدة حتى يمثُل علي بن أبي طالب عليه السلام بين يديه.
*الإمام الحسين عليه السلام: الولاية للحسن عليه السلام
كان يأتي بعض الشيعة إلى الإمام الحسين عليه السلام بعد وفاة الإمام الحسن عليه السلام، ويقولون له: يا أبا عبد الله، إنّ معاوية يطارد الأصحاب، فقد قتل حجر بن عدي، ونقض العهد الذي بينه وبين الإمام الحسن عليه السلام، قم وكلُّنا أنصارك. كان الإمام الحسين عليه السلام يعتبر نفسه جندياً في زمن الإمام الحسن عليه السلام، وليس عليه إلَّا أن ينفّذ سياسته، ولذلك رفض الخروج بعد وفاة أخيه، وبقي ملتزماً بالعهد عشر سنوات من حكم معاوية بن أبي سفيان، بينما كان شيعته يطالبونه بالتحرّك.
روى البلاذري فقال: لما توفي الحسن بن علي عليهما السلام اجتمعت الشيعة [...] فكتبوا إلى الحسين عليه السلام كتاباً بالتعزية وقالوا في كتابهم: إن الله قد جعل منك أعظم الخلق ممن مضى ونحن شيعتك [...] المنتظرة لأمرك... فكتب الإمام الحسين عليه السلام إليهم: إني لأرجو أن يكون رأي أخي (رحمه الله) في الموادعة، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً، فالصقوا بالأرض [...] ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله (4).
*اعتبروا الإمام الحسين عليه السلام وليّهم وقائدهم
ولعلَّ أبرز نماذج هذه المسألة ما نلحظه في واقعة كربلاء، إذ كان زين العابدين عليه السلام وأبو الفضل العباس عليه السلام وسواهما من الأقارب والأصحاب أطوع للإمام الحسين عليه السلام من بنانه، لذا استسلم الإمام لولاية الله، ووضع أصحابه وأهل بيته أنفسهم في موضع الطاعة له في أصعب الظروف.
لقد كان كل واحدٍ من هؤلاء يعرف أنَّ مصيره هو أن يُقطّع، ولكنّه لم يقصّر عن طلب الشهادة، لذا استسلموا للإمام الحسين عليه السلام، واعتبروه وليّهم وقائدهم.
تتدرّج هذه المدارس العظيمة على امتداد التاريخ، من مدرسة إبراهيم عليه السلام، إلى مدرسة موسى عليه السلام، فإلى مدرسة عيسى عليه السلام، وصولاً إلى مدرسة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إلى مدرسة الإمام الحسين عليه السلام، ومدرسة علي بن الحسين عليهما السلام، وهكذا حتّى نصل إلى مدرستنا المعاصرة مدرسة الإمام الخميني(حفظه الله).
إذا أردتم أن تعرفوا من هو القائد الحقيقي الذي نسميه نائب الإمام، فإنّ أول ما ينبغي لكم أن تستكشفوه من خصال ومواصفات هو علاقاته مع الله.
عندما نتتبّع أخبار الإمام الخميني (حفظه الله)، فإننا نجد أنَّ جميع قراراته نابعة من علاقته الروحية العالية مع الله عزّ وجلّ.
لقد عُرِفَ الإمام، منذ بداية دراسته، بصلاة الليل. ولم أرَ إنساناً قد اتصف بالتسليم المطلق والكامل لله عزّ وجلّ كهذا الرجل، حتى تحولت حياته بكل تفاصيلها إلى أشكالٍ من القربى لله عزّ وجلّ. إنّ بيته كان من أكثر البيوت تواضعاً في إيران، وهو في مطعمه ومشربه نموذج مصغّر عن إمامنا علي بن أبي طالب عليه السلام.
عندما نقول: إنّ الإمام الخميني (حفظه الله) هو الوليّ الفقيه، فنحن لا نقول ذلك تعصباً، ولا من منطلقات عاطفية، وإنما نقول ذلك لأننا نرى في هذا الإمام مواصفات الرسل والأنبياء والأئمة، نرى فيه الامتداد الحقيقي للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
(*) خطبة ألقاها سماحته قدس سره بتاريخ 19/8/1988.
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج91، ص225.
2.حياة الإمام الحسين عليه السلام، الشيخ باقر شريف القرشي، ج2، ص259؛ شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، ج11، ص600.
3.نسب هذا البيت إلى الإمام الحسين عليه السلام: من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام، عبد العظيم المهتدي البحراني، ص258.
4.راجع: لجنة الحديث في معهد باقر العلوم عليه السلام: موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، ص292؛ أيضاً: الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين عليه السلام، ص65.