مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شباب: قصاصة الورق

ديما جمعة فواز


نظر في صورته المنعكسة في المرآة.. تأمل ملامح وجهه وتلك الشعيرات التي لم تكتمل في ذقنه وتبسّم متمتماً: شهيد جواد.. تأهّب! كأنما هُتف به للتراصف، وظهرت معالم الجديّة على جبينه وصاح: "يا مهدي.. أدركنا.. عجِّل على.. ظهورك" بأسلوب جهادي ونبرة قوية، ثم ما لبث أن تراجع خطوات بسيطة عن المرآة وبدأ يراقب انعكاس بدلته العسكريّة التي ورِثها عن خاله الشهيد.. كم تليق به! وكم تحلو له الشهادة! وبحركة خاطفة بدأ ينظّفها من الخيوط الصغيرة التي برزت من كميها، ثم عاود الوقوف ليؤكد انضباطه..

أخذ يتصنع الهرولة دون أن يتحرك من أمام مرآته. كان في غرفته الصغيرة، وحوله عشرات الصور للقادة وللشهداء الذين لطالما حلم أن يلتحق بركبهم. وسرعان ما توقف عن الهرولة كأنّما تذكّر لتوه شيئاً خطيراً فارتمى على سريره ممسكاً سماعة الهاتف واتصل بصديقه:
- "لن أستطيع القدوم الليلة للسهر عندك.. أعرف.." صمت قليلاً وأردف موضحاً بلهجة لا تخلو من السخرية: "أنا مضطر أن أكون حاضراً، كالعادة، لتلبية طلبات أبي وأقاربنا، ضيوفه الأعزاء.. وأنت ماذا فعلت بشأن أخيك؟" استمع بغضب للصوت المنبعث من الطرف الآخر وصاح:
- "لا يحق لأحد أن يتدخل في تصرفاتك.. أجل.. حتى أخوك الكبير.. حسناً إلى اللقاء.. أراك غداً".

وفجأة طُرق باب غرفته ودخلت أمه تعاتبه:
- "جواد، جهز نفسك لاستقبال الضيوف، هيا!"
- "كيف تقتحمين غرفتي بهذه الطريقة؟ لِمَ لَمْ تنتظري حتى أسمح لك بالدخول؟!".

رمقته أمه بغضب وخرجت فيما كانت تتمتم:
- "لم أعد أحتمل أسلوبك الفظّ.. متى ستتعلم الأدب مع أهلك؟"

بقي يلاحقها بنظراته الغاضبة حتى توارت عن نظره وسارع لإقفال باب غرفته مُصْدِراً صوتاً قوياً. نظر بطرف عينيه إلى المرآة: "لن يعرفوا قيمتي إلا عندما أستشهد".. وحين همّ بخلَع بزّته العسكريّة سمع طرطقة ورقة تصدر من جيب السترة الداخلي.. مدّ يده وانتشل ورقة قديمة.. أمسكها بخشوع وتردّد.. لطالما ارتدى تلك البزّة ولم يلتفت يوماً لوجود ذلك الجيب السري.. أو حتى هذه الورقة..

جلس عند حافّة سريره وفتحها بأصابع مرتجفة.. لم يستطع أن يمنع دموع الشوق التي انذرفت حين لمح خطّ خاله العزيز.. مسح عينيه وبدأ يقرأ بصوت منخفض ومرتجف:
"ليست القوة وحدها هي التي تجعل المرء بطلاً، ليس بالبنية الصلبة أو التدريب الجاد يرتقي المجاهد في درب المقاومة.. إنما بالإيثار والتضحية.. فالمجاهد يؤثر بقاء الآخرين على حياته، يؤثر سعادتهم وأمنهم على حساب تعبه وسهره. لا بد كي يرتقي العبد في عين المولى أن يتواضع لخلقه وأن يسعى لتلبية مطالبهم..
اللهم وفّقني لأخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة..
اللهم وفّقني لطاعتك ولأكون صالحاً مع عيالك وعبادك.. اللهم.. وارزقني ما أتمنى..".


مرت دقائق ثقيلة على قلبه ولسانه.. وفجأة.. جحظت عينا جواد حين رأى آخر الصفحة.. لقد كتب خاله اسمه وخطّ التاريخ.. 23 تموز 2006 الساعة الثامنة والنصف مساء..
"يا إلهي.. هي ليلة استشهاده.. وهذه الكلمات هي آخر ما خطّته أنامل الغالي.. يا الله!".

لم يتمالك نفسه عن البكاء. هل هي الصدفة التي خبّأت تلك الوريقة طوال سنوات خلت؟ لقد رافقت تلك البزّة رفاقه ثم تسلمتها والدته حتى استطاع إقناعها بالاحتفاظ بها.. كل ذلك ليس صدفة.
وعاود القراءة مستغرقاً في معاني كلمات ما قبل الشهادة، لينتبه إلى طرقات ضعيفة تدق الباب:
- جواد.. هيا!
هرول نحو الباب وفتحه مبتسماً يخفي دموعه، احتضن والدته وهمس:
- "أمرك يا أمي.. أنا بخدمتك دائماً".

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع