مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

وشاح الوداع

حنان محمد

كان يوماً عاصفاً، وصرير الرياح المزمجرة يحول حول بيت فاطمة الواقع على رابية منفردة من روابي القرية.. وكانت أصداء أصوات البوم تنبعث من الوادي القريب لتضفي على الأجواء العاصفة وحشة تقتل الأرواح...
.. "أوه! .. لقد حان وقت الغروب وهذه الليلة موعد مجيء ساجد.. عليّ أن أحضّر طعاماً يحبّه.."
هذا ما حدّثت فاطمة نفسها به، كانت الفرحة تغمرها على غير عادة.. فساجد سيأتي الليلة..
لقد مضى على غيابه في الموقع ثلاثة أشهر قضتها فاطمة مع جنينها تعدّ الأيام والأسابيع وتتمنّى لو تنقضي بسرعة..
قامت لتوضب المنزل المتواضع، وبعد انتهائها سخنت ماءً لتتوضأ به، وما إن أحسّت بحرارته حتّى مرّت في مخيّلتها صور المجاهدين يتوضأون بجليد الماء فاغرورقت عيناها بالدموع وتمتمت "اللهم ألهمهم الصبر وثبّت عزائمهم يا أرحم الراحمين".

نادى المؤذّن للصلاة، فوقفت فاطمة في محرابها.. توجّهت بقلب كسير.. تضرّعت إلى دليل المتحيرين بروح تطفو في عالم السبحات ورجت منه أن يحمي المجاهدين بعينه التي لا تنام.
.. الساعة تشير إلى التاسعة.. "ربّاه بقيت ساعة واحدة. حسناً سأكمل الوشاح الذي كنت أحيكه بالأمس.."
أحضرت فاطمة صنارتيها ومِكَبّ الصوف وراحت تكمل الوشاح الذي وعدت زوجها بحياكته.
الوقت يمضي بثقل.. كلما نظرت إلى الساعة تشعر أنّ عقاربها مستمرّة في مكانها فتضيق أنفاسها اختناقاً.

.. جال خاطر فاطمة في أيامها الماضية .. كيف عارض أهلها زواجها من ساجد لأنّه شاب مقاوم وملتزم بتعاليم الشريعة السامية، أرادوها أن تتزوج شخصاً مترفاً يلتزم بيته لا يكترث لمصير الأمّة ولا يعرف معنى الجهاد في سبيل الله بينما هي أصرت على الزواج من ساجد، واجهت كلّ الصعوبات التي اعترضت طريقها، فقد رأت فيه محبّة خالصة لله.. صفاءً يتلألأ في عينيه.. عشق الله فجعل حياته في سبيله تذكرت فاطمة كلّ هذا.. كيف هيّأها لهذه المرحلة في أيام الخطوبة حيث كانت كلمته الدائمة "فاطمة لنجعل حياتنا كلّها لله".
انتهت فاطمة من ذكرياتها لتجد نفسها وحيدة.. الوحشة تملأ زوايا المنزل الصغير.. والوحدة تزيد قلبها أسى بدأ القلق ينتابها وأخذ الاضطراب يزيدها خوفاً، فالساعة أشارت إلى العاشرة والربع وساجد لم يصل بعد..
"ترى هل أصابهم مكروه.. يا إلهي أبعد عنهم كل أذى" وأخذت تلهج ما تيسّر لها من أذكار للتغلّب على هذه الحالة المهولة.. ما هي إلاّ لحظات ويطرق الباب..
هرعت فاطمة نحوه .. همّت لفتحه ..
تذكرت وصيّة ساجد فتراجعت قليلاً وسألت: "من الطارق"؟
"أنا ساجد يا فاطمة لا تخافي"..
فتحت فاطمة الباب بلهفة.. كاد قلبها أن ينخلع من مكانه.. طفقت في عينيها الدموع.. أرادت أن تخفيها فاصطنعت ابتسامة لتخفي آلامها إلاّ أنها كانت ابتسامة مثقلة بهمّ الوحدة وعناء البعاد..
أمّا ساجد شعر بحالتها.. أراد أن يهوّن عليها فقال ممازحاً: "ها قد أتيت كيف حالكم؟".
عندها هدأت خفقات قلب فاطمة بعض الشيء، وأجابت "بخير.. حمداً لله على سلامتكم، خفت أن تتأخّر أكثر من ذلك.."
-بدعائكم يا فاطمة وصلنا بخير.
-كيف حال الإخوة هناك؟..
-لا تخافي إنّ الله معهم وهم بحاجة لدعائكم، على كلّ حال أريد أن أطمئن عنك كيف أمضيت هذه المدّة وأنتِ في شهرك الرابع؟..
هنا.. أطرقت فاطمة لحظات.. وردّت بلهجة متهدجة
-الحمد لله إنّ الله خير معين..
-ونعمَ بالله يا فاطمة..
كانت فاطمة تصرّ على التبسّم فتظهر ابتساماتها شاحبة أرادت التهرّب من هذا الموقف فقالت:
يظهر أنّك جائع.. سأحضر طعام العشاء..
فابتسم ساجد قائلاً:
-لا يا فاطمة أنا أحضر الطعام استريحي أنت الليلة فقد اعتدنا في الموقع أن نحضر الطعام بأنفسنا..
-حسناً أنت تحضر الطعام وأنا أغسل البدلة..

نظرت فاطمة إلى بدلة الحراسة.. ضمتها لتتنشق عبير تراب الموقع منها.. فتراب الموقع عزيز على قلب فاطمة.. شرعت بغسلها وكلمته الأخيرة "استريحي الليلة" كانت تقلقها وجعلتها تشعر أن مدّة إجازته قصيرة وقصيرة جداً..
جلسا بجانب الموقد لتناول الطعام، وكلّ واحد ينتظر الآخر..
كانت فاطمة تشعر أنّ هذه اللحظات تمرّ بسرعة لا تستطيع أن تستوقفها فساجد أخبرها أنّه لن يستطيع البقاء أكثر في هذه الليلة لأنّ الأخوة بحاجة ماسّة إليه.. لذا لم يكن لديها أيّة رغبة في الطعام.. كيف تأكل وغصّة العبرة تكاد تخنف أنفاسها..
أحسّ ساجد بما يدور في خُلد فاطمة.. قرأ ذلك في الدموع المترقرقة في محجريها..
حاول أن يسيطر على الموقف فتناول لقمة من الطعام وقال:
تفضلي يا فاطمة..
أخذتها فاطمة لكنّها لم تستطع أن تضعها في فمها أردف ساجد..
فاطمة ما الأمر؟!
عندها لم تحتمل الجلوس.. أسرعت إلى الغرفة الأخرى وراحت تبكي الأسى الذي اعتمل في فؤادها الصابر.
عَظُمَ حالها على قلب ساجد.. لم يدرِ أيدخل إليها أم يدعها قليلاً مع نفسها؟!..
دخل الغرفة بخطوات مرتبكة.. احتار ماذا يقول؟
"فاطمة إنّ هذه درب طلاّب الآخرة.. وما نتعبه اليوم ونصبر لأجله نلقاه عند الله.. أليس هذا ما وعدنا الله به.. ألم يقل "لن تنالوا البر حتّى تنفقوا مما تحبون".
ارتاح قلب فاطمة قليلاً لكلماته الوادعة، تمنت لو يتكلّم طويلاً وطويلاً لتصغي إليه.. تمنّت لو يحكي ويحكي فهي لن تملّ من كلامه..
وهل تملّ الروح من نسيمها؟!..

سكت ساجد بعد أن رأى أنّ الارتياح بادٍ عليها والسكينة عادت إلى قلبها عندها رفعت فاطمة أجفانها المبتلّة بالدموع وقالت:
ساجد أرجو منك المسامحة، لم أقصد أن أُلبّدَ الجوّ بغيوم الأسى فأنا لم أحتمل ذلك..
هنا تنهدت فاطمة قليلاً وتابعت كلامها..
لكنّك على حق.. هذه درب صعبة ونحن اخترناها والله سيساعدنا لإكمال هذه الطريق..
تهيّأ ساجد بعد صلاة الفجر للرحيل..
بينما فاطمة لم يغفُ لها جفن.. لقد كانت ليلة قاسية على قلبها ورغم ذلك أرادت أن تعاقب نفسها على ما أحزنت به ساجداً ليلة أمس فقرّرت أن لا تبكي أمامه..
هيأت له أغراضه وبينما هي تقفل الحقيقة راودها شعور مخيف ارتعشت منه فاستعاذت بالله وتمنّت أن يكون خاطراً عابراً.. آجركم الله يا فاطمة لا تتعبي نفسك..
حمل ساجد الحقيبة.. شعرت فاطمة حينها أنّ الغرفة تدور بها فردّدت في سرّها "يا صاحب الزمان".
هذا وساجد واقف ينظر إلى جدران البيت مودعاً إياه ومتألّماً لحالها..
فاطمة إدعي لنا بالتوفيق..
فتح البابَ فانتبهت فاطمة..
ساجد لقد نسيت شيئاً..
جلبت فاطمة وشاح الصوف الذي صنعته..
هذا الوشاح الذي وعدتك به..
تقدّمت منه ووضعته على كتفيه..
سلمت يداكِ يا فاطمة انتبهي لنفسك وللجنين ولا تنسينا من الدعاء..
أدار ظهره.. فنادته ثانيةً
ساجد..
التفت إليها..
انتبهوا لأنفسكم جيداً..
فابتسم قائلاً: لا تقلقي يا فاطمة..

غادر ساجد.. فأسرعت فاطمة صوت النافذة لترمقه من البعيد رغم الهواء البارد الذي يلفح عينيها الدامعتين أحسّت أنّ الثلج تحت قدميه يعاتبه..
إنّ أغصان الشجر اليابسة تودعه.. إنّ روحها تناديه.. وبينما هي كذلك.. فإذا برشق رصاص يرتفع.. يقرع آذانها آتٍ من صوب المنعطف الذي دخل فيه ساجد..
صرخت فاطمة.. هرعت إلى الطريق ولهى لتجد ساجداً صريعاً قد مزّق جسده الطاهر رصاص البغاة.. ولوّن الثلج الذي عاتبه بدمائه..
جثت فاطمة على ركبتيها أمام الجسد الغافي ناحبة
حملت الوشاح الملطّخ بالدماء الزكية
رفعته بين يديها وارحت تحاكي الجراح النازفة
لم أكن أدري أنّه وشاح الوداع..
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع