للشهيد السعيد الأستاذ مرتضى مطهري
شهد العالم الغربي أبان القرنين الثامن والتاسع عشر، نزوعاً كبيراً نحو المادية وميلاً واسعاً باتجاهها. وامتدت تأثيراته لتشمل جميع المساحات، بما فيها ساحتنا الإسلامية.
وقام مفكرون إسلاميون لينفضوا عن أبناء هذه الأمة غبار هذه الأفكار المنحرفة والعقائد الباطلة، ويذكروا الأمة بتاريخ أمجادها، ويعيدوها إلى صراط اللَّه المستقيم.
ومن بين هؤلاء، انبرى آية اللَّه الشهيد مرتضى المطهري، عالماً جليلاً ومفكراً عظيماً، وحجّة دامغة، وبرهاناً قاطعاً، في مواجهة هذه الأفكار المنحرفة، ودحضها بالعقل والمنطق والحجة والبرهان. فكانت مؤلفاته شعلة مضيئة في طريق هداية الأمة نحو الصواب.
وما الكتاب الذي بين أيدينا سوى واحدٍ من هذه المؤلفات. بيّن فيه المؤلف الدوافع والأسباب التي حدث بالمجتمعات إلى السير في الاتجاه المادي، واعتباره سفينة النجاة التي ستوصل الإنسانية إلى برّ الأمان.
والكتاب حصيلة لمحاضرتين، ألقيتا من قبل المؤلف في قاعة المعهد العالي في طهران بعنوان "الدوافع نحو الاتجاه المادي"، نقّحتا وطبعتا في كتاب، بعد أن أضاف إليهما المؤلف الكثير من المطالب والعناوين تفوق ثلثي الأصل.
ترجم الكتاب إلى العربية، سماحة الشيخ محمد على التسخيري، وأعادت طبعه دار التعارف للمطبوعات.
* الجذور التاريخية للمادية
يعرض الكتاب- كما ذكرنا- للأسباب والدوافع التي أدت إلى اتجاه الناس نحو المادية، والتخلي عن كل ما يمت إلى الدين بصلة، وعزا ذلك إلى أسباب- وليست هي كل الأسباب- تكاد تكون الأهم على هذا الصعيد.
وقبل البدء في بيانها، عرض المؤلف لتعريف معنى المادية التي قد تكون، في مقابل المثالية التي لا تعترف بالوجود الخارجي للأشياء، أو قد تكون بمعنى إنكار الوجود اللامادي وحصر الوجود في العالم المادي، والمقصود منها هنا هو المعنى الثاني.
بعد ذلك، عرض للجذور التاريخية لهذه الفكرة "المادية"، والتي تجد لها أتباعاً في العصر الجاهلي ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾.. وكذا في العصور الإسلامية. حيث برزت طائفة تعرف "بالدهرية"، تنكر وجود اللَّه والرسالة والبعث.
وبرجوع المؤلف إلى دراسة المادية في القرون الأخيرة، فقد رأى عدم ثبات القول بوجود مدرسة فكرية مادية في العصور اليونانية، ورأى أن الذي كان موجودً هو تمايلات فردية نحو المادية.
كما نفى ارتباط ظهور المادية، بشكل مدرسة، بالتقدم والتطور العلمي، وذلك لوجود أفراد ماديين على مر العصور في الطبقات الجاهلة والمثقفة معاً، تماماً كما إننا نجد أناساً مؤمنين إلهيين من مختلف لمستويات، وعلى الأخص في طبقة العلماء.
* الدوافع نحو المادية
وبالعودة إلى الدوافع نحو الاتجاه المادي، فقد رأى العلامة الشهيد أن للسلطة الدينية والكنيسة التي حكمت أوروبا لقرون عديدة، الدور الكبير في هذا المجال، ويبرز هذا الدور من خلال أمرين:
1- قصور المفاهيم الدينية:
فالصورة التي قدمتها الكنيسة عن اللَّه والماورائيات صورة طفولية وغير ناضجة بتاتاً. فقد صوّرت اللَّه سبحانه على صورة كائن بشري، تلقاها الأطفال في طفولتهم، ثم ما لبثوا أن أنكروها بعد نضوجهم العلمي، ورؤيتهم إنها لا تتفق مع الموازين العلمية والعقلية الصحيحة. ليس هذا فحسب، بل أن الصور والمفاهيم التي كانت تقدمها الكنيسة للناس عن اللَّه، لم تكن موضع إنكارهم فحسب، بل كانت تؤدي إلى النفور من الدين وتعاليمه. وذلك كتلك التي تقول: "إن المسافة بين عين اللَّه اليمنى واليسرى تعادل 6000 فرسخ".
وعلاوة على ذلك، فقد كانت الصورة التي يتصورها العلماء في المحيط الكنسي، عن اللَّه خاطئة. فهذا أوغست كونت، قد جعل اللَّه جزءاً من أجزاء العالم، يكتشف كأية ظاهرة من الظواهر في إطار البحث عن ظواهر الكون، فإذا ما أراد أن يعرف علة جزء من أجزاء الكون تساءل: من الذي صنعه؟ اللَّه أم الطبيعة؟ فإذا لم يعرف العلة بوضوح نسبه إلى اللَّه، وإذا عرفها قال أنه مخلوق للطبيعة ولا ربط له باللَّه تعالى. هذا دون أن يعي أن هذا الكون من أوله إلى آخره كوحدة متناسقة مخلوق للَّه تعالى.
2- العنف الكنسي:
من جهة أخرى فإن أعمال العنف والإرهاب التي كانت تقوم بها الكنيسة ضد كل من ظنت أو توهمت منه الكفر بتعاليمها "الدينية منها والعلمية" كان لها الدور الأكبر في تنفير الناس من أتباع الدين. يقول الشهيد مطهري في هذا المجال: "وللكنيسة دور آخر في مجال دفع الناس إلى أحضان إنكار اللَّه، وقد يكون هذا الدور أهم من دورها الأول "قصور المفاهيم الدينية"، وهو دور تحميل العقائد والنظريات الكنسية الخاصة في المجالات الدينية والعلمية على الناس، وسلبهم أي نوع من أنواع الحرية العقائدية في هذه المجالات.
وكانت الكنيسة قد جعلت بعض المعتقدات العلمية الموروثة عن الفلاسفة الأقدمين وعلماء الكلام المسيحيين، إلى جنب المبادئ الدينية الأصلية، واعتبرت كل مخالفة لها موجبة للارتداد عن الدين.
ولم تكتف بهذا، بل أنشأت جهازاً بوليسياً مهمته التفتيش عن العقائد. وأتباع عقائد الناس، وتحليل ما في ضمائرهم، والسعي لإثبات التهم عليهم بأدنى مناسبة. ومن ثم إنزال أشد العذاب في كل من لاحت منه أدنى بارقة كفر أو ارتداد. مما خلق ردود فعل سيئة جداً تجاه الكنيسة بشكل خاص وتجاه الدين بشكل عام.
3- قصور المفاهيم الفلسفية:
لقد كان لقصور المفاهيم الفلسفية "الغربية على وجه التحديد" دور كبير في دفع الناس نحو الاتجاه المادي. ويظهر ذلك بأدنى تأمّل في طرح الغربيين للمسائل الفلسفية وتحليلهم لها. وقد أورد الشهيد مطهري أمثلة على ذلك، كان أهمها مشكلة "لعلة الأولى" التي دارت بين أخذ ورد شديدين فيما بين الفلاسفة دون التوصل إلى نتائج مرضية على هذا الصعيد.
أ- مشكلة العلة الأولى
لم يعطِ الفلاسفة الإلهيون في الغرب أجوبة مقنعة حول هذه المسألة مما أدّى إلى توجه الكثيرين نحو الإلحاد، فهذا هيجل، وهو من الفلاسفة المؤمنين بوجود اللَّه، يرى أن اللجوء إلى القول بوجود علة أولى ما هو إلا فرار من التسلسل، وهو من باب برهان الخلف الذي يضطر المرء فيه إلى قبول فكرة ما بناء على بطلان نقيضها، وسمّى هذه العلة علة أولى فراراً من التسليل، إلا أن المشكلة لم تنحلّ واقعاً بعد، فلماذا كانت العلة الأولى علة أولى؟
ونجد نظير ذلك عند كانت وسبنسر، حيث يعتبر أن "أن المشكلة تكمن في أن عقل الإنسان من طرف يتطلب العلة لكل أمر، ومن طرف آخر لا يمكنه أن يقبل الدور والتسلسل. كما أنه لا يجد العلة التي لا علة لها ولا يفهمها أيضاً، تماماً كما يقول القسيس للطفل: إن اللَّه خلق العالم، فيعود الطفل ليسأله: ومن خلق اللَّه"؟
وخلاصة الأمر عندهم أنه يجب أن نستثني العلة الأولى من قانون العلية، أما لماذا؟ فهذا ما لا يمكن فهمه.
وهناك البعض الآخر اعتبر أن هذه العلة الأولى تؤمّن احتياجاتها بنفسها، فهي علة لنفسها وليست مستثناة من قانون العلية. إلا أن هذا التصور عن العلة الأولى طفولي جداً، وهل هذا إلا التناقض الصريح حيث يكون الشيء علة لنفسه ومعلولاً لها في نفس الوقت. ولذلك لم يقل بهذا القول أي فيلسوف- أو نصف فيلسوف- بتعبير الشهيد مطهري رضي الله عنه.
ومع وجود هذا القصور في الإجابة على أمثال هذه المشكلة، برزت الدعوات الإلحادية من كل جانب وانتشرت في الغرب. فهذا جان بول سارتر يعتبر أن لقول بأن اللَّه علة وجود نفسه تناقض وهو غير مقبول.
ورفض راسل استثناء العلة الأولى من قانون العلية كما فعل هيجل وكانت وسبنسر. وقال إذا كانت العلة ضرورية لكل شيء فهي ضرورية للَّه أيضاً. وإذا أمكن لشيء أن يوجد بلا علة فإن هذا الشيء يمكن أن يكون اللَّه أو العالم. ولذلك فلا داعي لافتراض وجود اللَّه!.
ثم بدأ الشهيد رضي الله عنه بالرد على هذه الإشكالات. ولما كان التصور الأول طفولي جداً، أعرض عه وتوجه نحو التصور الثاني. فلماذا تُستثنى العلة الأولى من قانون العلية؟
* سر الاحتياج للعلة
لقد طرحت هذه المسألة في الفلسفة الإسلامية منذ زمن بعيد، وقد أجيب عنها إجابات متعددة. وليتضح المطلب لا بد من معرفة مناط الاحتياج إلى العلة والسر في ذلك أي ما هو الشيء الذي يجعل شيئاً ما محتاجاً ومعلولا لشيء آخر؟
لقد اتفق فلاسفة الإسلام على أن وجود الشيء لا يمكن أن يكون ملاكاً للاحتياج والمعلولية. فحقيقة الوجود لا يمكن أن تكون محتاجة ومعلولة لأن ما وراءها ليس إلا العدم والبطلان المحض. فالوجود، من حيث هو
وجود، مدار الغنى والاستقلال وعدم الاحتياج، أما ملاك الاحتياج فلا بد أن يكون في شيء آخر غير الوجود. وهنا آراء ثلاثة:
1- المتكلمون
يرى المتكلمون أن سبق الوجود بالعدم هو ملاك الاحتياج. فالموجود الحادث المسبوق بالعدم يحتاج إلى العلة أما القديم الذي كان موجوداً دائماً فلا يحتاج إلى علة.
2- الفلاسفة الأقدمون
أما الفلاسفة الأقدمون أمثال ابن سينا فقالوا بأن الإمكان الماهوي هو ملاك الاحتياج إلى العلة بمعنى أن الموجود الذي يتركّب من الوجود والماهية، وهو الموجود الممكن، فحيث أن الماهية متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، ولا توجد إلا إذا عرض عليها الوجود، فلا بد من أمر يسبب عروض الوجود على الماهية ويخرج النسبة من حد التساوي، وهذا الأمر هو العلة.
أما إذا كان الموجود وجوداً صرفاً لا ماهية له، وهو الموجود الواجب، والوجود يقتضى الغنى والكمال وعدم الاحتياج، فلا يحتاج إلى علة.
3- الملا صدرا
إلا أن صدر المتألهين- المعروف بالملا صدرا- أوصل المطلب إلى كماله عندما أشار إلى أن الماهية أمر اعتباري لا أصالة له. وأثبت أن الأصالة للوجود لا للماهية، وأن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة.
وبما أن الماهية أمر اعتباري فلا يمكن أن يكون ملاكاً للاحتياج إلى العلة، لأن الاعتباري توأم العدم وهو ليس منشأ لأي أثر، لكن الوجود الأصيل في مرتبته الواجبة اللامحدودة، هو عين الغنى والكمال فلا يحتاج إلى علة، أو الوجود في المراتب المتأخرة فمن خلال ما يلازم أخر مرتبته الوجودية من نقص ومحدودية وإمكان، فإن ذلك يكون ملاكاً لاحتياجه إلى العلة.
إذاً ليس الوجود بما هو وجود محتاج إلى العلة بل بما يتصف به من نقص ومحدودية وإمكان أما الموجود لكامل الواجب اللامحدود فغير محتاج إلى العلة.
ومن هنا يتبين سخف قول من ذهب إلى استثناء العلة الأولى من قانون العلية من بين المعاليل الأخرى في احتياجها إلى علة موجودة لها. فقانون العلية ليس هكذا: كل موجود محتاج إلى علة، أو كل شيء لا بد له من علة، بل قانون العلية هكذا: كل موجود ناقص محتاج إلى علة.
ب- التوحيد والتكامل:
لقد لعب هذا المفهوم الخاطئ دوره في إيجاد الدوافع نحو المادية. وذلك أن الأفكار الغربية كانت تتجه إلى القول بالتضاد بين كون اللَّه سبحانه خالقاً للكائنات، وبين سريان روح التكامل فيها.
فإذا قلنا بأن اللَّه سبحانه هو الخالق، لوجب أن يخلق الكون دفعة واحدة، ولوجب أن تكون الأشياء ثابتة على حال واحدة، لا تعرف التغير. أما إذا قلنا بالوجود التدريجي للكون، فمعنى ذلك أن العالم وجد من دون خالق، وإنما الصدفة هي التي أوجدته.
هنا يعرض الشهيد مطهري للأسباب لتي أدت بالغربيين إلى نحو هذا المنحى، ولتبيان عدم التضاد بين التكامل ومخلوقية هذا الكون للَّه تعالى.
فقد اعتبر الغربيون أنه بظهور نظرية التكامل سلب الإلهيون أهم دليل لديهم على وجود اللَّه، ألا وهو دليل النظام المتقن في الكون الموجود دفعة واحدة- على حد زعمهم- والذي يدل على وجود قوة مدبرة وراء هذا الكون.
والرد عليه في المدرسة الإلهية على- ما ذكره الشهيد- هو:
1- إن دليل إتقان الصنع ليس هو الدليل الوحيد على وجود الخالق. ومن المبالغة وصفه بعمدة أدلة الإلهيين.
2- إن نظام الخلقة لا ينحصر في بناء الأجهزة الداخلية للحيوانات ليقال أن التكامل التدريجي للأحياء كافٍ في إعطائها تفسيراً صدفتياً.
3- إن الظهور التدريجي والتغييرات التصادفية للبناء التكويني في النباتات والحيوانات، لا يمكنه بأي حال أن يفسر مثل هذا الإتقان والدقة المتناهية في أجهزتها. وذلك أن التغييرات الاعتباطية- إنما يمكنها أن تشكل تفسيراً كافياً لهذا الإتقان والدقة- في حالة افتراضنا أنه على أثر صدفة عمياء حصل تغيير تصادفي في بناء الكائن الحي، كأن حصل غشاء بين أصابع رجل الوز، وهذا التغيير ينفع للسباحة، ثم انتقل هذا التغيير بالوراثة إلى الأجيال التالية، واستمر إلى يومنا هذا! في حين أن علم لوراثة ينكر انتقال الصفات المكتسبة وراثياً.
كما أنه ليس كل الأعضاء والجوارح والتشكيلات تعمل كغشاء الوز غالباً. بل قد نجد كلا من الأعضاء يشكل جزءاً من جهاز منظم مترابط معقد كالجهاز الهضمي مثلاً. يقوم كله بعمل واحد وهكذا فليس من المقبول أن تكون التغييرات التصادفية قد أوجدت ولو عبر ملياردات السنين الجهاز الهضمي أو الجهاز السمعي أو البصري.
ومن هنا، فإن موضوع التكامل يثبت أكثر من ذي قبل وجود قوة مدبرة وراء هذا العالم، ويبين بوضوح الغائية في الكون.
كما أن الماديين اعتبروا أنهم لو قبلوا بوجود اللَّه لاقتضى ذلك وجود الأشياء وفق تصميم مسبق من قبله. وبما أن الصدفة لها دور كبير- على حد زعمهم- في خلق الكائنات فقد اضطرهم ذلك إلى القول أن خلق الأشياء لم يكن مقروناً بتصميم قبلي، ولأنه لم يكن كذلك، فليس من إله للعالم.
كما أن الأشياء- بنظرهم- لو كانت قد وجدت بالإرادة والمشيئة الأزلية لوجب أن يتحقق وجودها دفعة واحدة. وذلك أن الكتب الإلهية صرحت ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾.
والجواب عليه أنه لا العلم الأزلي ولا الإرادة الأزلية تقتضي دفعية الوجود. فالكتب الإلهية لم تطرح هذه المسألة بهذا النحو، بل بيّنت أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، ومهما يكن تفسير الأيام الستة هذه، فإن الذي يفهم منها هو التدرج.
وكذلك لا وجود لكلمة الصدفة في لفلسفة، بل هي أمر نسبي- فهي صدقة بالنسبة لغير المطلع على الحوادث والأوضاع والشرائط وليست كذلك للمطلع عليها.
أما بالنسبة للإرادة الإلهية التي تقتضي الوجود دفعة واحدة فمن الخطأ أن تستولي هذه الفكرة على أذهاننا، إذ أن الإرادة الإلهية مطلقة، ولازمها أن يوجد الشيء بالشكل الذي أريد له في الإرادة الإلهية والمشيئة الإلهية، سواء كان ذلك الشكل دفعياً أم تدريجياً. علاة على هذا، فإن الفلاسفة أثبتوا أن الأمور التدريجية الوجود ينحصر وجودها بالوجود التدريجي، أما النوع الآخر من الوجود وهو الوجود الثابت والدفعي فهو محال عليها.
ج- أزلية المادة:
ومن الأمور الدافعة نحو الاتجاه المادي كانت مسألة القول بأزلية المادة، التي قال بها ابن سينا، والتي ظنّ الغربيون إنها تتنافى مع مسألة الإيمان باللَّه.
والحق إننا عندما ندرس فلسفة ابن سينا، ونرى أنه يرى الاحتياج للعلة هو الإمكان الذاتي لا الحدوث، فإننا لا نرى أي تناقض وتنافٍ بين المسألتين.
د- اللَّه والحرية:
وهذه المسألة تتلخص في التنافي بين القول بالقضاء والقدر الإلهي وبين الاختيار الإنساني، في حين أن التعاليم الإسلامية ركزت كثيراً على كون الإنسان حراً مختاراً في ظل اعتقاده باللَّه. والنصوص القرآنية أكبر شاهد على ذلك ﴿إنا هديناه السبيل أما شاكراً وأما كفوراً﴾.
هذا بالنسبة لقصور المفاهيم الفلسفية. وهناك علة أخرى للاتجاه نحو المادية تتمثّل بـ:
4- عدم نضج المفاهيم الاجتماعية والسياسية:
فقد كان الغربيون يظنون أنهم إن قبلوا اللَّه كان عليهم أن يقبلوا استبداد القدرات المطلقة أيضاً. وهذا ما كان حاصلاً في أوروبا أثناء حكم الكنيسة حيث لم يكن الحاكم مسؤولاً إلا أمام اللَّه، فلا يحق لأحد أن يسأله عمَّا يعمل.
وطبيعي أن هذا مخالف لتعاليم الإسلام التي جاءت متعارضة مع الاستبداد وخنق الحريات، ومتساوقة مع الحرية بشكل دائم. والتي تعتقد أن الإيمان باللَّه هو الذي يستطيع- ولوحده- أن يجعل الحاكم مسؤولاً في قبال الوظائف الاجتماعية، ويمنح الأفراد حقوقهم.
هنا عرج المؤلف إلى ذكر ثلاث علل مشتركة بيننا وبين المسيحيين، دافعة نحو الاتجاه المادي، ترتبط بالأسلوب التبليغي والعملي الذي اتخذه أتباع الأديان في الماضي والحاضر وهذه هي:
1- إبداء الرأي من قبل غير الاخصائيين: فكثيراً ما نجد الناس يتدخلون في إبداء آرائهم في كثير من المسائل التي لا اطلاع لهم عليها. فيبدون آراؤهم في المسائل الطبية والاجتماعية والسياسية... ألخ. وهكذا كان بالنسبة للمسائل الدينية. فقد أتت آراءهم فيها قاصرة، غير ناضجة، بل ومشوهة أحياناً. مما جعل المجتمعات تحس بهشاشة وتهافت النظريات الدينية ومن ثم تبتعد عنها.
2- العبادة أو الحياة: لقد كان سائداً بين الناس في الفترات السابقة- ولا زال إلى الآن- مفهوم خاطىء مفاده التعارض بين الدين والحياة، فإما أن يحيا المرء حياة دينية بعيدة عن كل اللذائذ والغرائز، فيفوز عندها بسعادة الآخرة، وأما أن يعيش بعيداً عن اللَّه ليقوم بكل ما يهوى من لذائذ وشهوات.
حتى لقد حوربت الغرائز الطبيعية الموجودة في الإنسان باسم الدين إلى درجة جعلت الناس ينفرون منه ويبتعدون عنه. وكان ذلك بتأثير توجيهات غير واقعية من بعض المبلغين، أوجبت فرار الناس من الدين واعتبارهم اللَّه والدين سبباً لشقائهم.
والحقيقة أن الدين لم يأتِ لمحو الغرائز، وإنما كان هدفه تعديلها وتقويمها وتهذيبها وهدايتها نحو العمل الطبيعي والمطلوب.
حتى أنه عندما حرَّم بعض الأمور التي تبدو في الظاهر باعثة على السعادة واللذة كالخمر والزنا، فإنه كان ينظر إلى عواقبها الوخيمة والشقاء الذي تؤدي إليه.
وكذا بالنسبة للواجبات، فإنه كان ينظر، حين تشريعها وافتراضها، إلى تأثيرها الإيجابي في حياة الفرد والمجتمع.
3- البيئة الأخلاقية والاجتماعية غير الملائمة: وتعد هذه أحدى العلل الباعثة على الانحراف نحو المادية، إذ أن المرء غرسة محيطه، ينمو بشكل جيد في المحيط الطيب، ويفسد في المحيط الفاسد.
5- موقع البطولة والنضال:
وهذا العامل من عوامل الانحراف نحو المادية مختص بعصرنا الحاضر، حيث ترسخت في أذهان الكثيرين، وخصوصاً الشباب، بعدما جرى من إرهاب واضطهاد على المجتمعات من قبل الكنيسة، فكرة أن التقوقع والمسالمة وطلب العافية هو من دواعي التدين، أما النضال والحركية والتحرر فهو من دواعي المادية واللادينية.
وهذه الفكرة وإن صحت في حقبة من الزمن، إلا أن الواقع يقتضي أن يكون الأمر على العكس. إذ يجب أن يكون زمام الأمور الثورية ومقارعة الاستكبار- وكما كان في السابق في عهود الأنبياء والصالحين- في أيدي المؤمنين الصالحين. حيث ما من شيء يدعو إلى التحرر من الظلم والاستعباد أكثر من الشرائع الدينية والإلهية. وآيات الجهاد في الكتاب الكريم، خير شاهد على ذلك. وإنما الذي جعل الأمر بأيدي الماديين هو ابتعاد الناس عن الدين، وعدم إلمامهم بتعاليمه الأصيلة.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذا الأمر وإن صدق على تاريخ أوروبا والغرب إلا أنه لم يصدق كلياً على عالمنا الإسلامي، حيث أن تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين شهد عملية تحول تدريجي فيم واقع البطولة والنضال من أيدي الماديين إلى أيدي الإسلاميين، والثورة الإسلامية المباركة في إيران خير شاهد على ذلك.
في الختام عرض الشهيد كنتيجة لما تقدم اقتراحاً دعا فيه إلى عرض الفكر الإلهي بشكل علمي معقول، مبرهن بشكل صحيح، لا أن نعرض اللَّه بشكل إنساني، أو نبحث عنه في المختبرات، أو في أي مكان آخر من أجزاء هذا العالم، بل نلاحظ مسألة التنزيه المطلق له دائماً وفي كل شيء.
كما دعا إلى الوقوف بوجه أي انحراف فكري في هذا المجال، ورأى بأن هذا لا يتحقق إلا بوجود مدرسة استدلالية مترابطة التصورات، تكون بمستوى هذه المهمة. والمدرسة الإسلامية بمصادرها "القرآن الكريم والسنّة" حافلة بالنصوص الواردة في هذا الشأن والتي يمكن الاستلهام منها الخروج باستدلالات قوية ومتينة.