تنوع التفسير وتعددت مذاهبه واختلفت مدارسه بحيث برز التباين، في كثير من الأحيان، بين هذه المدارس والمذاهب والاهتمامات والاتجاهات والرؤى.
فهناك التفسير الذي يهتم بالجانب اللفظي والبلاغي من النص القرآني، وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين، وهناك التفسير الذي يعتلج العقل كأداة من عمق التدبر وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى، وهنالك التفسير المتحيز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة ويحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها، وهنالك أيضاً التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه ويطبق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي.
الذي يهمنا هنا هو إبراز اتجاهين رئيسيين لحركة التفسير في الفكر الإسلامي احدهما نطلق عليه اسم "الاتجاه التجزيئي في التفسير" والآخر اسم "الإتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير".
1: الاتجاه التجزيئي
ونعني به تناول المفسر للقرآن الكريم آية فآية بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنية من خلال ما يؤمن به من أدوات ووسائل مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الذي تقع الآية ضمنه.
طبعاً لا نعني بالتجزئة التي نطلقها على هذا المنهج التفسيري أن المفسّر يقطع نظره عن سائر الآيات، بل إنه قد يستعين بآيات أخرى وأحاديث وروايات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليه الصلاة و السلام، وبالظهور أي إسراع الذهن إلى معنى ما في حال سماعه للفظ معنى، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث، أي أن الهدف هنا هو "هدف تجزيئي" لأنه يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذلك من النص القرآني.
بالمحصلة فإن هذا الاتجاه، سوف يرفدنا بعدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية ولكن في حالة تناثر تعددي دون تركيب عضوي لهذه المجاميع من الأفكار، ودون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال في مجالات الحياة.
2: الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي
هذا الاتجاه يحاول القيام بدارسة قرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الإجتماعية أو الكونية مستهدفاً تحديد موقف نظري للقرآن الكريم في هذا المجال.
أما ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات بعض المفسرين حول موضوعات معينة تتعلق بالقرآن الكريم كأسباب النزول أو القراءات أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن فهي ليست من التفسير الموضوعي في شيء وهي في الحقيقة تجميعاً عددياً لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شيء من التشابه، فليست كل عملية تجميع أو عزل هي دراسة موضوعية، إنما الدراسة الموضوعية هي التي تبدأ من الموضوع ومن الواقع الخارجي ثم تعود إلى القرآن الكريم.
أما تسمية هذا الاتجاه بالتوحيدي فباعتبار أنه يوحِّد بين التجربة البشرية وبين القرآن، لا بمعنى أنه يحمل التجربة البشرية على القرآن، وليس بمعنى أنه يُخضِع أو يطوّع القرآن للتجربة البشرية، بل بمعنى أنه يوحد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحد من البحث، أي أنه يستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكرية التي أدخلها في سياق بحثه.
والموضوعية هنا ليست في مقابل التحيز التي هي مفترضة في الاتجاهين الموضوعي والتجزيئي، إنما هي اختيار المفسر لمجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد من أجل أن يقوم بعملية التوحيد بين مدلولات هذه الآيات من أجل أن يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع.
3: التفسير الموضوعي أفضل الاتجاهين
في المقام أفضل الاتجاهين في التفسير هو التفسير الموضوعي، إلا أن هذا الحكم لا ينبغي أن يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي. إن هذه الأفضلية لا تعني استبدال اتجاه وطرح التفسير التجزيئي دفعة واحدة والأخذ بالتفسير الموضوعي، وإنما إضافة اتجاه إلى إتجاه، لأن التفسير الموضوعي ليس إلا خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي.
4: التفسير الموضوعي والنظريات الإسلامية
على ضوء ما ذكرناه آنفاً فالمنهج الموضوعي يكون أوسع أفقاً وأرحب وأكثر عطاءً بإعتبار أنه يتقدم خطوة على التفسير التجزيئي كما أنه قادر على التجدد والتطور والإبداع باستمرار، وذلك لأن التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه له من مواد ثم تطرح هذه المواد بين يدي القرآن الكريم لكي يستطيع المفسر أن يستحصل على الأجوبة التي تشكل الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام تجاه الحياة.
ولكن ما هي الضرورة لأن نحدد هذه النظريات في الوقت الذي وجدنا النبي صلى الله عليه و آله و سلم أعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين؟
الحقيقة هي أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يعطي هذه النظريات من خلال التطبيق ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبنيه في الحياة الإسلامية حيث كان كل فرد مسلم يفهم النظرية فهماً إجمالياً ارتكازياً لأن مدلولات اللغة وقواعدها موجودة وجوداً إجمالياً ارتكازياً في ذهنه.
وبذلك كان قادراً على تقييم المواقع والمواقف والأحداث.
5: أين يكمن التوظيف الهادف للنص القرآني؟
إن المفسر التجزيئي دوره في التفسير على الأغلب سلبي، فهو يبدأ أولاً بتناول النص القرآني المحدد - آية مثلاً - أو مقطعاً قرآنياً دون أي افتراضات أو طروحات مسبقة، ويحاول أن يحدد المدلول القرآني في ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة.
هنا العملية في طابعها العام، كان دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الإصغاء والتفهم، وهذا هو ما نسميه بالدور السلبي، فهو يستمع بذهن مضيء وبروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها في التعبير، والقرآن ذو دور إيجابي، حيث أن القرآن يعطي حينئذ وبقدر ما يفهم هذا المفسر من مدلول اللفظ ويسجل في تفسيره.
وخلافاً لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي، فهو لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة حيث يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر البشري عن ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الإنساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الافكار والمواقف البشرية، في ضوء الحصيلة التي استطاع المفسر أن يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة، ومن خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الأرض، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، لا يجلس ساكتاً ليستمع بل محاوراً سائلاً مستفهماً ومتدبراً، وهو يستهدف من ذلك أن
يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، ومن خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، إلا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم..".
إذاً، أول أوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي فيه هو هذا الالتحام مع الواقع ومع الحياة بوصف القرآن القيم والمصدر الذي يحدد المفسر على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع.
يعتبر القرآن أعظم كتاب منقذ للإنسان من القيود المكبلة لرجليه ويديه وقلبه وعقله، والتي تجره نحو الفناء والعدم والرق والعبودية للطواغيت.
الإمام الخميني قدس سره.