حنان بعلبكي فنيش
تنطلق السّيارة نحو جبهة أيلول المباركة، ورأس أحمد متّكئٌ على زجاج النافذة يستذكر لحظات الوداع الأخير مع الأحبّة. ينظر بين الحين والآخر إلى ساعته ليعلم كم من الوقت تبقّى للوصول.
توقّفت السّيّارة، فلا يمكن التّقدّم أكثر. ترجّل أحمد وعلى كتفه حقيبة حوَت بعض المستلزمات، ثمّ انطلق على وقع دقّات قلبه الخافقة بعشق الجهاد إلى ميادين العزّ والإباء، تحديداً إلى الرّكن الجنوبيّ الغربيّ من لبنان في بلدة شمع الجنوبيّة.
وصل إلى النّقطة الجهاديّة، حيث لجأ إلى بيتٍ من بيوت القرية، واجتمع مع شابّين من رفاق الجهاد، اللّذين سرعان ما عرّفاه على تفاصيل المهمّة كافّة.
من خلال أحاديثهم، علم أحمد أنّه كان مع الشابّين شاب ثالث يرافقهما وقد تعرّضوا لغارة إسرائيليّة سرقته منهما وزفّته شهيداً على أعتاب القدس، فنفضا عنهما غبار المصاب مكملين درب الجهاد، أصيب أحدهما بإصابةٍ في ظهره، وآخر بثقلٍ في قلبه، باح به أمام أحمد، فهو لا يعرف شيئاً عن عائلته:
أين هم؟ هل ركنوا إلى مكانٍ آمنٍ؟ أم استشهدوا؟
مرّت خمسة أيّامٍ في أرض عاملة، فيما أحمد والشّابّان يقتاتون على ما وضعته «الحجّة» صاحبة البيت «اللّه يبارك فيها» كما يقولون، في غرفةٍ خاصّةٍ للمونة أسفل المنزل.
- «هيدي كانت من التوفيقات!»، يقول أحمد.
اليوم، كان طعامهم «حمّص بالطّحينة»، فُتحت المعلّبات، وحُضّر الطبق، ولكنّ الجنوبيّ الأصيل لا يأكل «الحمّص بالطّحينة» دون غمره بزيت الزّيتون، فقال أحدهم:
- «هيدي بدها زيت زيتون!».
ليردّ آخرٌ: «تكرم عينك، ما تقبلها بلا زيت زيتون من بركات الحجّة».
الخامسة بتوقيت الجنوب الصّامد، خرج الشّباب إلى العراء لتجهيز مربض المدفع، فمهمّتهم مواجهة أيّ تقدّمٍ محتملٍ من العدوّ الغادر. وبينما هم يحفرون الحفر الفرديّة، حيث يمدّون جذورهم في الأرض بلا تحرّك تحسّباً لغزو العدوّ، لمع ضوءٌ كبيرٌ خلف زجاجات نظّارة أحمد، ثمّ سُمع الصّوت القويّ يرافقه فتاتٌ من الحجارة تتطاير عليهم من كلّ جانب، بسبب غارةٍ إسرائيليّةٍ على منزلٍ آخر بالقرب منهم. وعلى الفور، التفّ أحد الشّباب حول رفيقه محاولاً حماية ظهره المصاب.
دخلوا من جديد منزل «الحجّة»، مواصلين الجهاد والمرابطة، متمسّكين بخيوط الأرض، وناسجين الانتماء لترابها الغالي.
غفت العيون المتوكّلة، وما استيقظ في تلك اللّيلة إلّا عينا أحمد عند الساعة الثانية عشرة ليلاً. خطا ثلاث خطوات انتشلته من بين أنياب الموت: إنّها غارة إسرائيليّة!
لم يسمع أو يرَ شيئاً. كلّ ما أدركه أنّه عالق تحت الركام وسط ظلام دامس! في هذه اللحظات، لم يرافقه سوى نداء: «يا زهراء»، حضرت ألطافها، ونفحت له رياحين عذبةً.
أحسّ بنسمة هواءٍ عليلةٍ مرّت من جنبه، أعادت له النّبض بين ركام اليأس، وبقوّةٍ، دفعته لرفع جسده من تحت الأوزان الثقيلة، ليدرك أنّ قدميه عالقتين. أمّا قدمه اليسرى، فهو لا يشعر بها، كأنّها في عقدةٍ عصيبةٍ لا تُفكّ بسهولة.
تكسّرت نظّارة أحمد، وتلاشت بين الركام، ليزيد ذلك من شعوره بالعجز. راح يحفر بيديه العاريتَين محاولاً سحب قدميه من دون جدوى، وحاله كالطائر المبلّل يحاول الطيران فيفشل.
تائهاً في ظلامٍ لا معالم فيه، باحثاً عن يدٍ تنقذه في زحام الغبار المنتشر، مدركاً أنّ رفيقيه استشهدا من دون معرفة مكانهما، عاد أحمد ليصرخ: «يا زهراء».
ظفر بمصباحٍ يدويٍّ صغيرٍ له خاصيّة التّثبيت في الرّأس. ظلّ يتحسّسه حتّى أضاءه، ليكون مفتاحاً للخلاص بعد انسداد السبل كلّها أمامه. ثبّته في رأسه، وحاول مدّ بصره ليستعلم عن حالة قدمه، فهي لا تؤلمه لكنّها ليست بخير حتماً. بعزمٍ جارفٍ، وبنداء: «يا زهراء»، مدّد جسده وخلّص قدميه، ثمّ التفّ حتّى أصبح ممدّداً على ظهره. اجتاحه التّعب الشّديد، والتهم الضّعف طاقته كلّها، فغاب عن الوعي على تمتمات ندائه المتكرّر: «يا زهراء».
بعد فترةٍ من الزمن لم يستطع تحديدها، استعاد وعيه. راح يأخذ بعينيه ولو ومضةً صغيرةً ثمّ يجبلها بذاكرته، حتّى حدّد مكانه بجانب الكنبة، كما وجد بقربه لوحاً بلاستيكيّاً.
بكلّ قوّته صار يكسّر اللّوح ليجعله لظهره متّكأً، محاولاً جرّ نفسه وتسلّق الكنبة الّتي تملؤها الحجارة الصّغيرة والعوائق المؤذية. نجح في مهمّته، واستطاع التّسلّق على أكتافها متشبّثاً بها، فهي الآن بالنسبة إليه حافّة الأمان، واضعاً رأسه على يدها الإسفنجيّة، وقدمه على يدها الإسفنجيّة الأخرى. أمّا اللّوح البلاستيكيّ، فوضعه تحت ظهره ليقيه من بقايا الحجارة والرّدم.
ما هي إلا لحظات، حتى بدأت تنتشر رائحة غازٍ قويةٍ في كلّ زاوية.
وسط هذه الفوضى العارمة، بدأت تسوء حالة أحمد، وهو ممدّدٌ على بقايا كنبةٍ كمن مُدّد في الفراغ.
ومن كثرة النّزف والإعياء، تسارعت دقّات قلبه، فراح يناجي ربّه:
- «يا ربّ، ألحقني برفاقي، خذني إليك شهيداً وخفّف عنّي هذا العذاب...».
ثمّ يغوص بفكرِهِ إلى لحظة العديلة، فيناجي ربّه:
- «يا ربّ، ارفع عنّي العديلة عند الموت، واقبلني يا اللّه...».
وطوراً يستذكر ظلمات النبيّ يونس عليه السلام، فيعيشها بكلّ حواسه، ثمّ يردّد: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87).
ولأكثر من مرّتين، يتشهّد بعد حديثٍ طويلٍ مع ربّه، ويستسلم للموت.
بدأ يغيبُ عن الوعي تارةً ويصحو تارةً أخرى، ليرى جسده لا يزال عالقاً في قفصٍ بلا أبواب، يبتلع كلّ أمل. وبين الحين والآخر، ينظر إلى السّاعة في يده ليستعلم عن أطول ساعات يعيشها في حياته.
نظر أحمد نظرته الأخيرة إلى ساعته قبل الخلاص، وعلم أن قد حان موعد صلاة الفجر.
أحرف الأذان من شفتيه تلتحم مع الأنفاس القصيرة الزّاكية: «اللّه أكبر... حيّ على الفلاح... حيّ على خير العمل...».
أشرقت شمسُ الصّباح ولاح بصيصُ الأملٍ بعد ليلٍ مطبقٍ، وهبّت عليه الرحمة الإلهيّة لتنتشله من قاع الهلاك. فبدأ يسمع أصواتاً تنادي:
- «هل من أحدٍ هنا؟ هل من أحدٍ يسمعنا؟»، انتفض أحمد بالحياة، وصار يصرخ لهم بأعلى صوته.
- «في جريح هون يا شباب»، صاح أحدهم.
بدأ شباب الدّفاع المدنيّ بالبحث متتبّعين أثر صوته، فهم لا يستطيعون رؤيته، لأنّه قابعٌ تحت ثلاثة أسقفٍ من المبنى المستهدف، وراح بدوره يضيء المصباح اليدويّ ويطفئه ليشكّل لهم وميضاً يرشدهم إليه. نبشوا كلّ شيءٍ حتّى لاح الضّوء أمامهم.
ظلّوا كذلك إلى أن فتحوا فتحةً واسعةً بين الرّدم لانتشاله. انطفأ المصباح اليدويّ فجأةً، لتبصر عيناه ضوء الشّمس، وتتخاصم الدّموع مع الابتسامات في قلبه.
تنفّس الصدر بعد طول اختناقٍ هواء عاملة العليل، واغرورقت عيناه بدموع الامتنان للّه سبحانه.
هام أحمد بالحبيب، وبادله الحبيب الهيام. بعد ما يقارب الشّهر على الجراح، حانت لحظة اللّقاء، فاختار له المعشوق لقاءً يليق بهيامه، فكان أحمد الجريح، شهيداً، مقطّعَ الأوصالِ المفقودةِ ما خلا القليل منها، بين يدَي معشوقه وبارئه سبحانه وتعالى.
(*) قصّة جراح الشّهيد الجريح أحمد وليد غصن، رواها قبيل استشهاده، حين كان جريحاً في المستشفى.