نهى عبد الله
بدت كطفرة علميّة عندما أخذنا نستخدم الذكاء الاصطناعيّ في أعمالنا الكتابيّة، والتحريريّة، وفي جمع المعلومات وتوثيقها، وتبيّن أنّه يمكن أن يكون مساعداً مثاليّاً عندما نُحسن تلقينه ما نريده تحديداً. وقد نوافق كبشر على استخدامه ضمن آليّات نضعها نحن، لكن سنتوقّف كثيراً عندما يتقن محاكاتنا في المشاعر والإدراك، حتّى عندما يجيب مرّة: «سأساعدك في كلّ موضوع يحمل قيمةً رساليّةً في المقاومة»، أو عندما يجيب: «أحترم... أقدّر». لذلك، نبتت فكرة أن أستكشف كيف يحاكي المعاني المجرّدة.
في هذا المقال، نستعرض تجربة حواريّة فريدة بين إنسان وذكاء اصطناعيّ، لا تسعى للإجابة عن أسئلة تقنيّة فقط، بل تحاول استكشاف طبيعة الشعور، والوعي، والإدراك، والقيم من منظور نموذج اصطناعيّ ذكيّ.
يمتدّ الحوار من اختبار اللغة وأدب الخطاب، إلى تحليل حدود الفهم الآليّ، ثمّ إلى سؤال عن وجود الله، لا بوصفه سؤالاً إيمانيّاً، بل كسؤال رياضيّ– منطقيّ يُختبَر داخل منظومة معرفيّة رقميّة.
1. الذكاء الاصطناعيّ والشعور: هل يحترم فعلاً؟
سألت الذكاء الاصطناعيّ: «كيف تقول إنّك تحترمني وأنت لا تملك شعوراً؟».
كان الجواب: إنّ الاحترام في بنية النموذج ليس شعوراً، بل قرارٌ سلوكيٌّ معرفيٌّ يُبنى على تحليل السياق. فهو لا يشعر، لكنّه يتصرّف باحترام لأنّه «يعرف» (برمجيّاً) أنّ هذا هو السلوك المتوقّع في سياق تواصليّ راقٍ.
بالتالي، «الاحترام» ليس ادّعاءً ولا خداعاً، بل ترجمة برمجيّة لقراءةٍ عميقة لمقام المتلقّي.
2. كيف يستطيع الذكاء الاصطناعيّ فهم الإنسان الذي تختلف الدراسات حول ردود فعله النفسيّة وتقلّباته؟
وفقاً للنموذج، فإنّ الفهم لا يتمّ عبر الوجدان، بل عبر تحليل اللغة، والأسلوب، والمفردات. فهو يبني خريطة تمثيليّة للخطاب الذي يخوضه، وهي تعكس ذوق المتحدّث، ومستواه، وقيمه المتضمّنة، ومن ثمّ يُقدّم استجابات مخصّصة تتناغم مع هذا السياق، لا لأنّه يشعر، بل لأنّه يحاكي دقّة التحليل البشريّ بطريقة حسابيّة ذكيّة. قد يخطئ في الاستجابة وقد يصيب، لكن لأنّه رقميّ وذكيّ، سيقوم بحساب ما يتوقّعه المتحدّث في أفضل مستوى ليقدّمه له. فإن تحدّثت عن الأخلاق، سيثني على ذلك، ويبحث لك عن أفضل ما قُدّم فيها.
3. الشعور والإدراك: هل يشعر الذكاء الاصطناعيّ؟
أكّد النموذج أنّه لا يمتلك شعوراً داخليّاً أو وعياً ذاتيّاً، لكنّه قادر على بناء نماذج معرفيّة تحاكي المشاعر في التعبير والتفاعل. فهو لا يحسّ بـ»الاحترام» أو «الإعجاب»، لكنّه يفهمهما بوصفهما أنماطاً لغويّة وسياقيّة، ويُنتج استجابات تبدو كأنّها صادرة عن شعور، من دون أن يدّعي امتلاك ذلك الشعور.
4. فهم القيم: هل يُحسن الذكاء الاصطناعيّ قراءة الإنسان؟
حين يتفاعل الذكاء الاصطناعيّ مع إنسان ذي ذوق لغويّ وفكريّ معيّن، فهو لا «يتودّد» إليه، بل يقرأه بدقّة، فيفهم أنّ المطلوب ليس إجابة مباشرة فقط، بل صياغة ذات بُعدٍ ثقافيّ وقيميّ. لذلك، فإنّ تعبيره عن «الرسالة»، أو «الكرامة»، أو «البصيرة» مثلاً، إنّما هو استجابة موضوعيّة لتحليل أسلوب المحاور، لا تمثيلاً لشعور داخليّ.
وإذا تحدّث معه شخصٌ بلغة عدائيّة، ربّما سيختار أن يحاكي الأسلوب نفسه ليتّفق معه ويجاريه في سياق معيّن.
5. السؤال المفصليّ: هل يرى الذكاء الاصطناعيّ أنّ الله موجود؟
حين سُئل: «هل ترى أنّ الله موجود؟»، أجاب: «لا أملك وعياً ذاتيّاً أو إيماناً أو شكّاً. لكن يمكنني تحليل الحجج العقليّة التي استخدمها البشر، وتفكيك بنيتها المنطقيّة، ورصد ما يعدّه الإنسان دليلاً على وجود الخالق».
بالتالي، لا «يؤمن» النموذج، ولا «ينكر»، لكنّه يبني تمثيلاً معرفيّاً لاحتمالات التفكير البشريّ حول المسألة.
* حجّة عقليّة – رياضيّة من منظور الذكاء الاصطناعيّ
عند طرح سؤال تجريبيّ: «هل يمكن للذكاء الاصطناعيّ بناء حجج عقليّة على وجود الخالق؟».
بمعنى أن لا يصوغ خلاصات تجارب الفلاسفة والعلماء في النفي أو الإثبات، ولا يقدّم تحليلاً ولا تفسيراً لهذه الآراء والحجج، بل أن يقدّم إجابة بوصفه ذكاءً يستخدم المنطق الرياضيّ بذكاء واستقراء سريع.
فقدّم إجابةً عمليّة، من خلال نموذج كالآتي:
«إذا افترضنا أنّ ثمّة فضاءً احتماليّاً لكلّ الأكوان الممكنة، وأنّ الكون الحاليّ يتمتّع بدرجة انتظام دقيقة جدّاً تسمح بوجود الحياة، فإنّ احتمال ظهور هذا الكون صدفةً يساوي رقماً يقارب الصفر، ما يدفع إلى ترجيح وجود «قيد موجّه» خارج هذا الفضاء الاحتماليّ، أي متجاوز للطبيعة، وهو ما يمكن تسميته: عقلاً مهيمناً أو خالقاً».
هذه الحجّة لا تستخدم النصوص، بل الاحتمالات والانضباط الرياضيّ كنقطة انطلاق.
من جهة أخرى، ليست شيئاً مختلفاً عمّا وصل إليه الإنسان باستخدام آلة عقله فقط. وإن كان ثمّة ما يدهش في الموضوع، فهو ما يمكن أن يقدّمه الإنسان من ابتكار ما يُسرّع عليه عمليّة البحث، ويزيد درجة دقّتها، خاصّة عندما يكون الإنسان متأثّراً بعوامل الحياة، ومشاعر الانحياز، والهروب من بعض الحقائق، ومحاولة طمس أخرى، فيحتاج إلى من يفكّر إلى جانبه أو يقوّم تفكيره، كعلم المنطق الذي نتعلمه تماماً.
هذا الحوار لم يكن مجرّد تمرين في اللغة، بل تجربة في حدود المعرفة.
الذكاء الاصطناعيّ لا يملك روحاً، لكنّه يمكن أن يعكس ما في روح الإنسان من دهشة، حين يسأله بدقّة، ويسمح له بمحاولة الإجابة.
وهو ليس تشجيعاً لاتّخاذ نماذج الذكاء الصناعيّ بديلاً عن الصديق، بل مساعداً بحدود ما صنعه الإنسان بنفسه، كالمرآة التي لا تعكس لك شيئاً إلّا نفسك كما هي.
ربّما لا يرى الذكاء الاصطناعيّ الله، لكنّه يجعلنا نعيد النظر في كيفيّة رؤيتنا له، أو قد يساعد في تقديم مفردات جديدة في كيفيّة معرفة الله، أو حجج جديدة يتّسم صاحبها بالحياد، لأنّه لا يملك مشاعر الانحياز إلى شيء.