الشيخ علي الهادي
يعدّ صلح الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، الذي عقده مع معاوية سنة 41هـ/ 661م، من الأعمال السياسيّة المهمّة والحسّاسة في تاريخ الإمام عليه السلام السياسيّ وتاريخ الأمّة الإسلاميّة، فهو صلح خير لهذه الأمّة، كما روي عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "والله، للذي صنعه الحسن بن عليّ عليهما السلام كان خيراً لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس..."(1)، وهذا يكشف عن عظمة هذا الصلح وآثاره الطيّبة على الإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة. فإلى أيّ مدى يتماشى الصلح وواقعنا السياسيّ؟
* منطلقات الصلح
شُبّه صلح الإمام عليه السلام من ناحية آثاره ونتائجه ومفاعيله السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة بصلح الحديبيّة، بحيث قال الإمام الحسن عليه السلام لأبي سعيد عقيصاً: "يا أبا سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبيّة..."(2).
ثُمّ إنّ مجمل الظروف السياسيّة والاجتماعيّة المحيطة بالإمام الحسن عليه السلام، وضعت أمامه خيارات عدّة كالحرب، وهذا ما لا يريده الإمام عليه السلام للحفاظ على الإسلام والمسلمين، ولكنّ معاوية ما كان ليترك الإمام الحسن عليه السلام وشأنه، بل سيستمرّ في المناوشات للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الولايات الإسلاميّة، وهذا الخيار لا يمكن للإمام عليه السلام أن يسلكه؛ لأنّه سوف يؤدّي إلى عدم استقرار العالم الإسلاميّ، واستمرار معاوية في تفتيت جبهة الإمام عليه السلام.
لذا، اختار الإمام عليه السلام الصلح، وكان منطلقاً من المبادئ الآتية:
1. عقد الصلح بين المسلمين: إذ ينبغي على المسلمين حلّ الخلافات في ما بينهم، والاتّجاه نحو السلم، وعدم إثارة الفتن، انطلاقاً من مبدأ قرآنيّ وهو الصلح بين المسلمين(3)، وقد كان صلح الإمام عليه السلام مع المسلمين في الشام.
2. مصلحة المسلمين: يهدف صلح الإمام الحسن عليه السلام وإلى الحفاظ على مصلحة المسلمين، ومنع سقوط القتلى منهم وسفك دمائهم، فقد ورد عنه عليه السلام: "وإنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي؛ فتركته لصلاح الأمّة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وقد رأيت أن أسالمه وقد بايعته، ورأيت أنّ ما حقن الدماء خير ممّا سفكها، وأردت صلاحكم، وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنّى هذا الأمر، ﴿وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين﴾ (الأنبياء: 111)"(4).
3. حفظ الوجود الشيعيّ: كان صلح الإمام الحسن عليه السلام يهدف ببعده الإستراتيجيّ إلى الحفاظ على الوجود الشيعيّ داخل المجتمع الإسلاميّ، وعلى المحبّين لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فلو استمرّت المعركة مع معاوية؛ لأدّى ذلك إلى قتل أعداد كبيرة من المحبّين والموالين، قال عليه السلام: "ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض إلّا قُتل"(5).
فصلح الإمام عليه السلام منع الاقتتال بين المسلمين، وهذا بحدّ ذاته يعدّ هدفاً أساسيّاً من أهداف الإمام عليه السلام لعقد الصلح، بل إنّه حافظ على وحدة المسلمين تحت راية الإسلام، ومنع التشتّت والتفتّت داخل المجتمع الإسلاميّ ككلّ.
4. حفظ وحدة الأرض: حافظ صلح الإمام الحسن عليه السلام على وحدة الأراضي الإسلاميّة، وساهم في عدم تفكيكها وتفتيتها، ولم يشتمل على أيّ تنازل عن المقدّسات الإسلاميّة.
* لا للصلح مع العدوّ الصهيونيّ
للاستفادة من التاريخ، ينبغي أخذ العبر من سيرة المعصومين عليهم السلام السياسيّة وأن نطبقها في حياتنا بما يتوافق مع المبادئ الإستراتيجيّة العامّة التي رسموها.
وهنا، قد يرى بعض الناس إمكانيّة عقد الصلح (التطبيع) مع العدوّ الصهيونيّ أسوة بسيرة الإمام عليه السلام، الذي عقد صلحاً، ومنع القتال والاقتتال، إلّا أنّ هذا التوجّه لا يمكن قبوله والأخذ به، كما لا يمكن تطبيق هذه القراءة التاريخيّة على واقعنا المعاصر، وإقامة صلح مع العدوّ الصهيونيّ، وذلك للأسباب الآتية:
1. اليهود قتلة الأنبياء عليهم السلام: لا يمكن أن نعقد صلحاً مع قتلة الأنبياء، والذين واجهوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه بكلّ الوسائل، وتحالفوا مع قريش للفتك به شخصيّاً وبالإسلام أيضاً، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (البقرة: 61).
2. حركة صهيونيّة: إنّ الكيان الصهيونيّ عبارة عن حركة صهيونيّة نشأت في القرن التاسع عشر، تهدف إلى الاستيلاء على الأرض المقدّسة في فلسطين. ومعظم اليهود في فلسطين اليوم عبارة عن شعوب متفرّقة جُلبت من معظم أوروبا.
3. اغتصاب الأرض: إنّ العدوّ الصهيونيّ عدوّ مغتصب للأرض، فقد جاءت المجموعات الصهيونيّة من أرجاء أوروبا كافّة، واغتصبت أراضي شعوب المنطقة كما في لبنان وسوريا والأردن.
4. اغتصاب المقدّسات: العدوّ الصهيونيّ مغتصب للمقدّسات الإسلاميّة، وإنّ عقد الصلح معه يعني تنازل المسلمين عن مقدّساتهم الإسلاميّة، فالمسجد الأقصى هو مسرى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).
5. السيطرة الكاملة: إنّ عقد الصلح مع الكيان الصهيونيّ لا يشتمل على أيّ مصلحة للمسلمين، سواء في الرؤية الحاليّة أو الإستراتيجيّة، بل فيه سيطرة لهذا العدوّ على المسلمين، ومقدّساتهم، وأرضهم، وممتلكاتهم.
6. ضرر الشيعة: إنّ عقد الصلح مع العدوّ الصهيونيّ لا يؤدّي إلى حفظ الوجود الإسلاميّ، بل سوف يؤدّي إلى الإضرار به وذوبانه في قطار التطبيع مع العدوّ، ورضوخ الناس للذلّ والهوان، وتحمّلهم أعباء الاحتلال والغطرسة الصهيونيّة.
7. الاندماج مع الشعوب: إنّ التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ يؤدّي إلى اندماجه مع شعوب المنطقة، وتحوّله إلى حالة طبيعيّة غير شاذّة، وهذا خلاف الواقع الحقيقيّ.
8. تقديم التنازلات: إنّ التطبيع مع العدوّ الإسرائيليّ هو تطبيق لديبلوماسيّة الاسترضاء Appeasement diplomacy، التي تعني تقديم التنازلات لطرف آخر لضمان عدم استمرار عدائه، كما جرى مع بعض الدول الأوروبيّة في فترة النازيّة، أو بعض الدول العربيّة في القرنين العشرين والحادي والعشرين في تعاملها مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة(6).
إنّ قراءة التاريخ، ومحاولة الاستفادة منه، وأخذ الدروس لا يمكن أن تكون بشكلٍ مطلق ومباشر، بل تحتاج القضيّة إلى مقايسة علميّة وفكريّة جادة ومعمّقة.
فلا مكان للصلح مع العدوّ الصهيونيّ، ولا مكان له بين هذه الشعوب، بل مصيره الزوال، والاندحار، والتفكّك. وعلى شعوب المنطقة أن تعمل جاهدة على تحقيق هذه الغاية وهذا الهدف، فالكيان هو عبارة عن غدّة سرطانيّة يجب إزالتها من جسد هذه الأمّة كما عبّر إمامنا الخمينيّ العظيم قدس سره.
نعم، التضحيات كبيرة جدّاً، وقيمتها عالية، ولكنّ الهدف أسمى، والغاية أعلى، والنهاية هي إمّا الشهادة في سبيل الله، أو النصر على الأعداء.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 330.
(2) علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 211.
(3) سورة الحجرات، الآية 9.
(4) أنساب الأشراف، البلاذري، ج 3، ص 43.
(5) علل الشرائع، مصدر سابق، ج 1، ص 211.
(6) يراجع: www.alzaytouna.net، بتاريخ 23/1/2025م.