د. بلال اللقيس
وُفّق حزب الله منذ انطلاقته بأن واكبته ثلّة من العلماء الربّانيّين ممّن ينتمون إلى مدرسة الإسلام الأصيل، مدرسة تُظهر جوهر الفقاهة، وتقوم على قاعدة تحرّر عالِم الدين في تعلّمه وتفقّهه ورأيه من سلطة السياسيّين، وتؤكّد على محوريّته واستقلاليّته عن السلطة، إذ إنّه غير مقيّد إلّا بالفقاهة وبمصلحة الإسلام ككلّ.
تحدّثنا في مقال سابق عن مجموعة من مزايا هذه الحركة الجهاديّة، أمّا هذا المقال فيشير إلى مزايا أخرى في إضاءات سريعة.
* أنسنة الدين
لم يقدّم خطاب حزب الله الدين كمعطى جانبيّ أو محايد، بل جعله يتماهي مع الإنسان وينسجم مع حقيقته وحقيقة عالم الوجود؛ إذ إنّه داخل في كلّ الأمور، ولا يمكن فصله عنها أبداً، بدليل أنّ محاولات ذلك قد فشلت. من هنا، يهدف الدين إلى تلبية حاجة الإنسان، وفيه دوماً خير للبشر، والبشر سيدركون ذلك بكامل إرادتهم: "لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم، إلّا فتح الله عليهم ما هو أضرّ منه"(1). يقول الله تعالى: ﴿وَأَلَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً﴾ (سورة الجن: 16). هذا يعني أنّهم من يجب أن يستقيموا، وينهضوا بالمسؤوليّات، ويحقّوا الحقّ، ويعملوا بالقسط والعدل. لذلك، ترقب في خطاب حزب الله بوضوح تلازم المفهوم الدينيّ والإنسانيّ؛ فكلّ فعل إنسانيّ يصبّ في مصلحة الدين، وكلّ أمر دينيّ هو لأجل الإنسان. هذا الفهم للدين يساعد الحزب في إيجاد قواسم مشتركة مع الجميع ومخاطبتهم، والتعاطي معهم بمرونة، بعيداً عن أيّ انفعال.
الدين ليس عبارة عن مقاربة إسقاطيّة إمّا أن نأخذها كلّها أو نرّدها، إنّما هو تنّزل وتنزيل وقراءة على مكث. لذلك، لم يواجه الحزب مشكلة في التعاطي مع مسألة الدولة وقضيّة الوطن.
* التنظيم
يختلف التنظيم في حزب الله عن غيره من التجارب التي تتّصف بالجمود. تراه ينفر من البيروقراطيّات والمراتب والامتيازات ولا يستسيغها، هو تيّار بنظم ومؤسّسة. يلاحظ ذلك في ثقافته الحزبيّة كما في سلوك العاملين، ولا سيّما أولئك المتصدّين للمواقع الأولى، بدءاً من أمينه العام، إذ إنّهم يتجنّبون المواقع والمسؤوليّات والشأنيّات ما استطاعوا. ولنا أن نضيء على مسألة جوهريّة هي أنّ حزب الله لا يضع فواصل وحواجز بينه وبين الناس، وهو ليس ملك جماعة أو فئة معيّنة، بل ملك الوطن والأمّة والمستضعفين. هو شديد الصلة بالناس وقريب منهم، ويتحدّث معهم في كلّ صغيرة وكبيرة، ويسعى في خدمتهم فوق استطاعته وإمكاناته. هو تجربة عمل من معين نموذج دينيّ متمّيز، والدين بالنسبة إليه هو المستوعب لكلّ خير ولمصلحة الإنسانيّة.
كما يمكن أن نضيء على حقيقة أنّ حزب الله يحرص جدّاً على الابتعاد عن عسكرة المجتمع رغم محوريّة المقاومة في بنائه ودوره، لكنّه يريد مجتمع مقاومة وليس جمهوراً عسكريّاً، مجتمع يعيش شتّى أبعاد الحياة وميادينها، ويؤدّي دوره المقاوم دون أن يتحّول إلى "عسكريّ". من هنا، يمكن أن نستشفّ أحد أبعاد التعبئة العامّة، إذ إنّها تصوّر متنام لمجتمع يقوم بدوره الجهاديّ والأخلاقيّ دون أن يتعسكر.
* العمليّة
اتّسمت الحركات الثوريّة بخطاب شعاراتيّ، وعانت من اللاواقعيّة أو التناقض بين الواقع والمأمول. وكثيراً ما عُدّت الحركات الدينيّة أنّها تعيش على الماورائيّات والفرضيّات الأيديولوجيّة المسبقة وتتحرّك من خلالها دون أن تكترث للواقع، فتتصادم معه. أمّا اللافت في حزب الله فإنّه بقدر ما يؤمن بالغيب ودوره، يؤمن أيضاً بأهميّة الواقع والانطلاق منه، وكذلك بالاعتماد على أدوات منهجيّة ومعرفيّة. إنّه يدرك أهميّة التفاعل بين الواقع والمثال؛ فيتوّسع فهمه للمثال ومعناه، ويزداد عمقاً في النظر إلى الواقع وتفسيره. وبقدر ما يسلّم بالغيب وتأثيره وتدخّله باعتباره من الواقعيّات، إلّا أنّه في حركته يمارس عقلاً علميّاً. ففي فهم مسألة الدنيا، يأخذ حزب الله بالتجارب ويعدّها مدخلاً للمعرفة والعلم، ويأخذ بالسنن الحاكمة لفهم الاتّصال بالغيب باعتبار السنن قواعد علميّة يثبتها العقل والتجربة البشريّة، ويوضّحها الدين كإحدى قنوات إمداد السماء لأهل الأخلاق الجادّين في خدمة الناس. إنّ مقتضى العلميّة من وجهة نظره أن نمتلك شمولاً واتّساعاً في التعاطي مع مختلف الأمور بحيث نستوعب كلّ زواياها وأبعادها، لأنّ عدم قراءة المشهد على حقيقته وبسعته يحدّ من قدرة الإنسان على الإبداع والعمل: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ﴾. وإذا كان الغرب قد عجز عن استيعاب عالم الغيب وعلاقته بأهل الأرض فعدّه ميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، فإنّ ذلك لا يعني بحال أنّه لا يوجد للغيب تأثير على عالم الدنيا، وأنّه جزء كبير من الواقع تتضافر على تأكيده كتب السماء.
* التواصليّة
إحدى خصائص حركة حزب الله أنّه تواصليّ، بمعنى أنّه لا ينقطع عن الماضي بل يقيّمه ويستفيد منه للحاضر والمستقبل. هو يعتبر أنّ من مزايا الحقّ أنّه ينساب في حركة التاريخ، فلا يصعب فهمها لأنّها تخلو من التعقيد والغموض، كما هو حال مسار الباطل والظلم. لذلك، يتعاطى بعقليّة التقويم والاستمرار لا الانقطاع مع كلّ حركة وتجربة أرادت بصدق طلب الحقّ والعدل أينما كانت ومهما كانت أفكارها. وهذا ينمّ عن فهم خاصّ للتاريخ الإنسانيّ والصراع.
* الاستثمار بالإنسان
يكاد لا يوجد تنظيم في عالمنا العربيّ والإسلاميّ يسعى إلى تنمية الإنسان وتطوير استعداداته، بقدر ما يفعل حزب الله، خصوصاً في خطابه الثقافيّ العامّ للدنيا والآخرة، فهو لا يتوقّف عن نشاطه في هذا المجال ولو في أحلك الظروف. الأمر الوحيد الذي يجب أن يستمرّ هو البناء الثقافيّ والفكريّ والروحيّ، إذ يعدّه محور صناعة الحياة؛ فحينما يحدث تغيّر إيجابيّ داخل الإنسان، وينطلق هذا الأخير ليعيش العدالة والمسؤوليّة والحريّة الفعليّة، يكون حزب الله قد نجح في وضع مداميك التغيير الخارجيّ في المجتمع. لذلك، لا تتعب عقول أفراده من التفكير بهدف التطوير والتحسين والسعي لإدامة خطاب فعّال وجاذب وحيويّ للأجيال القادمة والتربية على المسؤوليّة.
إنّ بناء النموذج يعتمد أوّلاً وآخراً على الإنسان. ذات يوم سُئل أحد الرؤساء: كيف غيّرت واقع دولتك؟ فأجاب أنّه غيّر في عقليّة الإنسان فيها.
(1) نهج البلاغة، ج 4، ص 25.