السيّد علي مرتضى الهبش
يميل الإنسان بفطرته إلى أن يكون عزيزاً. وهذه العزّة يطلبها في كلّ مجالات حياته؛ فهو عندما يتعلّم يريد العزّة العلميّة مقابل الافتقار إلى غيره في العلم، وعندما يعمل لأجل الحصول على المال يريد العزّة الماليّة مقابل الافتقار إلى غيره، وعندما يعمل على تهذيب نفسه وتخليصها من دنس المعاصي يريد بذلك العزّة مقابل ذلّ المعصية وقبحها، وعندما يتسلّح ويصبح قويّاً يريد بذلك العزّة مقابل الذلّ الذي يفرضه العدوّ. وقد قدّم القرآن الكريم شبكة من الآيات التي تبيّن قضيّة العزّة وأصولها، ومصادرها، ونتائجها.
* مفهوم العزّة
عرّفها الراغب في معجمه المتخصّص في مفردات القرآن قائلاً: إنّ العزَّة حالةٌ مانعة للإنسان من أن يُغلب(1). بينما رأى صاحب تفسير الميزان(2) أنّ الصَّلابة هي الأصل في معنى العزَّة، ثمّ توسّع فاستُعمل العزيز في من يَقهَر ولا يُقهر، كقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا﴾ (يوسف: 88). ثمّ ذكر العلامة الطباطبائي مجموعة من المعاني المستعملة في العزَّة وطبّقها على آيات من القرآن ومنها:
1. العزّة بمعنى الغَلَبة: قال تعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ﴾ (ص: 23) ، والعزّة بمعنى القلّة وصعوبة المنال، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾ (فصلت: 41)، والعزّة بمعنى مطلق الصعوبة، قال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ﴾ (التوبة: 128).
2. العزّة بمعنى القدرة: يضيف صاحب تفسير الأمثل تحليلاً لطيفاً حول مفهوم العزّة، فيقول: إنّ حقيقة العزَّة قدرة تتجلّى في قلب الإنسان وروحه، تبعده عن الخضوع والاستسلام أمام الطُّغاة والشّهوات، وبذلك يصل إلى مستوى الصَّلابة(3).
اتّضح لنا أنّ العزّة تعانق الجنَبة الروحيّة والقلبيّة عند الإنسان، وهذا يكشف عن مكانتها بالنسبة إليه؛ لأنّ إنسانيّته في روحه وقلبه، ولذلك، يعدّ البدن الخالي من الروح ومن الأشياء المتعلّقة بها كالعزَّة ميتاً. أمّا حين تُقبل روحه على العزَّة، فيصير في حياةٍ ونشاطٍ وحيويَّة.
ويُفهم أيضاً أنَّ العزَّة قدرة وسلطة نفسانيَّة باطنيَّة يطرد بها الإنسان كلَّ أمر يسبِّب له الذلّة والخضوع والانتكاس. وهذه القدرة تتجلَّى في مكان طاهر وهو القلب، وتُـمازج الوجود المعنويّ للإنسان، أي الروح. وعليه، فإنّ العزّة بـمعناها ومفهـومها وثـمراتها تـمثِّل للإنسان مطلباً مهمّاً لا بدَّ من تحصيله لعظمته ونفاسته.
* أصالة العزّة في القرآن
القرآن الكريم أصّل قضيّة العزّة وأدرجها ضمن الكثير من الآيات؛ فهي لله تعالى، وهو الذي يعطيها لغيره من رسول أو جماعة أو أفراد. وعندما يكون مصدر العزّة الله عزّ وجلّ، تمتاز بأنّها حقيقيّة ودائمة، يقول العلّامة الطباطبائي في الميزان: "ثمّ إنّ العزّة بمعنى كون الشيء قاهراً غير مقهور أو غالباً غير مغلوب، تختصّ بحقيقة ترتبط بالله عزّ وجلّ، إذ إنّ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئاً إلّا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئاً من العزّة كما فعل ذلك بالمؤمنين به، قال تعالى: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾(4).
* النفاق وطلب العزّة
المنافقون جزء من المجتمع الإسلاميّ، يتّخذون الإسلام ديناً ظاهريّاً، ويبطنون الكفر، وهذا الجزء خطير جدّاً على المجتمع والأمّة، خصوصاً أنّه يتعاون مع الأعداء، ويقدّم لهم ما يريدونه من اختراقات وتسهيلات عدائيّة ضدّ الأمّة الإسلاميّة، مقابل عزّة هشّة.
عندما ترتبط العزّة بالله والمنظومة العقائديّة الحقّة فيستحيل زوالها وحتّى ضعفها، ولذلك يخاطبهم الله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: 138-139)؛ بشرى لهم بالعذاب، لأنّهم سلكوا طريقاً يؤدّي حتماً إلى العذاب والخيبة. إنّ جبهة الكفر والعداء لله وللمؤمنين لم تحفظ يوماً منافقاً عَمِلَ لصالحها، بل تتركه عند انتهاء صلاحيّته، تنهشه الذئاب، بل قد تتخلّص هي منه عندما لا ترى منه فائدة، هذه سنن الكفر مع المنافقين الذين يعملون لصالحهم، والله تعالى نفى أيّ عزّة من الكافرين، وحصرها فيه، فلا شرف ولا كرامة ولا عزّة لكافر، فكيف يبتغي المنافق العزّة ممّن يفقدها؟!
* العزّة مع القوّة
عشرات من الآيات القرآنيّة قدّمت العزّة على العلم: ﴿عزيز عليم﴾، وعلى الحكمة: ﴿عزيز حكيم﴾، وعلى الحميد: ﴿عزيز حميد﴾، وغيرها من المصاديق، لكن عند اقتران العزّة بالقوّة تكون الأخيرة مقدَّمة على العزّة في آيات القرآن: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحجّ: 40). فالعزّة لا تكون مع الضعف؛ فالقوّة من علل العزّة، والضعف من علل الذلّ والهوان.
* مصادر العزّة
ثمّة مصدران أساسيّان للعزّة، هما:
1. الانتماء إلى الإسلام: هو أحد مصادر العزّة التي يريدها الإنسان، لأنّ الإسلام دين لا ذلّ فيه ولا انهزام ولا أوهام، هو دين حقّ مرتبط بالله وبالقرآن الكريم.
2. الجهاد في سبيل الله: لا يمكن أن يعيش الإنسان حياة عزيزة كريمة بدون تضحية. والتضحية من سنن الوجود في هذا العالم، والخير كلّه تحت ظلال السيوف(5) كما جاء في بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعندما تضحّي فئة من الناس بنفسها في سبيل الله، فهي تقدّم عزّة حقيقيّة للأمّة. والمضحّي (المجاهد والجريح والشهيد) ينال العزّة بعمله هذا، لأنّها لا تؤخذ بالمجّان، بل علينا أن نشهر سيوفنا ونحصل عليها بقطرات دمائنا، وعرق جبيننا، وبذل أرواحنا، عندها، نشعر بالسعادة وهناءة العيش، وهذا أمر إلهيّ لا نهاية لصلاحيّته إذ يأمرنا تعالى بالإعداد والاستعداد دائماً: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ ٱلخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُم﴾ (الأنفال: 60).
* نتائج العزّة
للعزّة نتائج عدّة، نذكر منها:
1. الحصانة: عندما تتحقّق شرائط نزول العزّة في أمّتنا ومجتمعنا، يعني ذلك الحصانة للأمّة والمجتمع، ونكون قد خرجنا من استعباد المستعبدين، ودخلنا في دائرة الحريّة الحقّة.
2. القوّة: بالعزّة نصبح في نادي الأقوياء، فكن قويّاً تكن عزيزاً.
3. البناء: بالعزّة نبني المجتمع والوطن دون إملاءات من دول الاستكبار، وبهذا، نصل إلى تحقيق الأهداف الكبرى.
4. الأمل: يتحقّق الأمل من خلال تقليص دائرة الهيمنة الاستكباريّة، وبث روح العزّة في نفوس أناس ظنّوا أنّه لا يمكن هزيمة المستكبرين.
ستأتي المغريات والتحدّيات، وسنقابل كثيراً من التهديدات، لكن بالعزّة نحيا، ونمضي، وننتصر.
(1) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 332.
(2) الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 17، ص 22.
(3) الأمثل، الشيخ الشيرازي، ج 14، ص 35.
(4) المصدر نفسه، ص 22.
(5) الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 2.