رواية جريح في مجزرة "البايجرز"
تحقيق: فاطمة خشّاب درويش
رنّ جهاز "البايجر" الخاصّ بي، وصلتني رسالة، وما إن قرأت عبارة "e عليهم السلام عليهم السلام عليها السلام عليهم السلام "، حتّى أدركت أنّ ثمّة مشكلةً كبيرة. خلال ثوانٍ فقط، انفجر الجهاز بيدي اليسرى، وبسرعة البرق ناديت رفاقي في المركز بصوتٍ عال: "ارموا الأجهزة... رح ينفجروا"! امتزج صوتي بشعور الألم تارةً والقلق والخوف على مصير رفاقي تارةً أخرى.
* جراح مهولة
أدركت أنّني خسرت يدي اليسرى، وما لبثت أن شعرت بحرارة الدماء تسيل من عينيّ، شيئاً فشيئاً أصبحت لا أرى بهما بعد أن غطّاهما الدم. علت صرخاتي وتكبيراتي، وإذ بي أشعر بشخصين إلى جانبي، طلبت منهما منشفة حتّى أغطّي يدي التي تسيل منها الدماء. ضمّدت يدي المقطوعة، ورضخت لفكرة أنّ عيناي انطفأتا. حاول أحد الإخوة أن يسندني ليحملني، رفضت وقلت بعنفوان كبير: "يا شباب، أنا بخير ما في شي، راحوا عيوني وإيد وحدي، فيني إمشي عادي، ما تتعذّبوا، رح ساعدكم".
دقائق معدودة، وعلم الجميع أنّ ما جرى لم يكن حادثاً فرديّاً في المركز، بل تعرّض له المئات من الأشخاص في الوقت نفسه.
* فوضى عارمة
خرجت من الغرفة بانتظار المصعد، وإذ بالأصوات تعلو في كلّ مكان: "يا زهراء"، "يا بقيّة الله"، فاستخدمت السلالم متوجّهاً نحو السيّارة. طلبت من الأخ الذي يقود السيّارة أن لا يسرع، قائلاً له: "أنا بخير، ما تستعجل، ما بدنا نخوّف العالم".
على الطريق المؤدّية إلى أقرب مستشفى، كانت أصوات الإسعافات في كلّ مكان، "ثمّة أشخاص يرتمون على الطرقات"، يقول أحد المرافقين، "يلّا وصلنا ما تعتلّ همّ". قصدوا عدداً من المستشفيات، ولكن لم يكن ثمّة إمكانيّة لاستقبال مزيد من الحالات بسبب الاكتظاظ الكبير بأعداد الجرحى. عندما وصلنا إلى المستشفى الرابع، شعرت بوجود أشخاص على الأرض في الممّرات، فيما الأطبّاء والممرّضون يعملون كخليّة نحل لإجراء عمليّات سريعة لإنقاذ الجرحى. اقترب مني طبيب فقال لي: "كيف حالك؟"، قلت له: "أنا منيح ما تشغل حالك فيّي، إيدي الشمال وعيوني، بس أنا منيح، يمكن في أشخاص بحاجة إلك أكتر منّي".
* "أنا بخير"
جلست على كرسيّ، وإذ بي أشعر بالسكينة، حمدت الله على ما أصابني، وحينها شعرت بضرورة التواصل مع الأهل وزوجتي حتّى اطمئنهم.ّ شعرت بمرور شخص بقربي، لمست يده وطلبت منه استخدام الهاتف، أعطيته رقم والدتي الذي أحفظه، ردّت عليّ، قلت لها: "أنا بخير يا أمّي، كتّر خير الله، ما في شي مهمّ، طمّني بيّي وإخواتي، ما تتعذّبوا وتجوا، عاجقة كتير بالمستشفى".
ثمّ طلبت منه الاتّصال بزوجتي، وحين ردّت على مكالمتي، قلت لها: "إنت عيوني يلّي رح شوف فين، ما تخافي أنا بخير".
* مسيرة العلاج
يشرح: "بدأت في مسيرة العلاج، وخضعت لعدد من العمليّات في عينيّ، كما أجريت عمليّات في يدي من أجل تخفيف الالتهابات الناتجة عن بتر اليد، والأهمّ أنّني بخير ولله الحمد".
تقف زوجته إلى جانبه، تضع يدها على يده المبتورة، وشعره الأشقر الذهبيّ يتدلّى على عينيه الخضراوتين، وعلى شفتيه المتشقّقتين بدماء الغدر ابتسامة المنتصر الذي رفض الموت غيلة دون الخوض بشجاعة في مواجهة العدوّ في ساحة المعركة. يرفع يده اليمنى ويتوعّد الأعداء الجبناء، وهو يحاول فتح عينه اليمنى التي تغطّيها الجروح والقروح. أمّا وجهه اليوسفيّ البهيّ فيحكي حكاية مقاوم قدّم يده وعينيه فداء للمقاومة.
قلت له: "سلامتك، كيف حالك؟"، قال: "الحمد لله الذي أكرمني بالجراح، ولكنّي أشعر بالخجل، لم أستطع أن أقدّم أكثر، إن شاء الله نكون شركاء في صناعة النصر قريباً. نحن بخير، أرواحنا فداء للمقاومة وأهلها".
ويتابع: "مشكلة نتنياهو أنّه لا يعرف أنّنا طلّاب شهادة، كلّ واحد منّا ينتظر حتّى يؤذن له بالذهاب إلى الجبهة والقتال. إنّه غبيّ جدّاً، لأنّه يعتقد أنّه بقتلنا أو بجرحنا سنفقد إرادتنا. هو لا يعلم أنّ قدوتنا الإمام الحسين عليه السلام الذي استشهد مع أهل بيته وأصحابه فداء للإسلام، والسيّدة زينب عليها السلام التي رغم أنّها واجهت أصعب المواقف في كربلاء، قالت ليزيد: "ما رأيت إلّا جميلاً". ونحن نقول للسيّد حسن: "لم نرَ إلّا جميلاً، رغم كلّ ما حصل وسيحصل".
قاطعه والده ممازحاً: "الحمد الله على سلامتك يا بطل، إن شاء الله ستتعافى عمّا قريب. لقد كتب الله لنا أن نواسي أهل البيت عليهم السلام بجراح ابننا، وهذا كلّه فداء لهذا النهج".
أمّا عن وضعه الصحيّ حاليّاً، فيقول والده: "بحمد لقد أصبح يرى بعينه اليمنى، وتلك اليسرى سوف تتحسّن مع الوقت".
يحاول الجريح فتح عينيه مجدّداً، والابتسامة ترتسم على وجهه، ويقول: "بدنا نصحّ بسرعة يا حاجّ، بدنا نرجع على الشغل، ما فينا نتدلّع كتير، ما فينا نترك الشباب لحالهم".