نسرين إدريس قازان
الشهيد على طريق القدس محمّد محمود إرسلان (دحنون الطيّبة)
اسم الأمّ: هنيّة أمين عربيد
محلّ الولادة وتاريخها: السعوديّة 07/10/1976م
الوضع العائليّ: متأهّل وله 4 أولاد
محلّ الاستشهاد وتاريخه: الطيّبة 10/10/2024م
ليلة إعلان وقف إطلاق النار كانت أصعب الليالي علينا وساعاتها كانت الأطول. منذ فترة طويلة لم نتلقّ أيّ خبر عن أبي، فلا معلومات أو أخبار عنه. ترجّح لدينا احتمال شهادته لكن لا شيء أكيد. انتظرنا كلّ الليل، بعضنا اغتنم ساعةً من النوم وبعضنا سلبه الشوق نعسه. ومع طلوع الصباح انطلقنا للبحث عن أبيّ، ورغم وعورة طريق الجنوب المدمّرة، توجّهنا إلى قريتنا "الطيبة" بأسرع ما يمكن.
انتشرت صورة ثلاثة شبّان حملوا جثمان والدهم الشهيد القائد الدحنون على أكتافهم صبيحة إعلان وقف النار في لبنان، رأينا ملامح وجوه تعالت على الفراق والأوجاع، وقاماتهم شمخت بعزمٍ حُسينيّ تحمل الشهيد بكلّ عزّة وفخر. في هذا المقال سنتعرف إلى الشهيد الدحنون بلسان عائلته.
ليلة إعلان وقف إطلاق النار كانت أصعب الليالي علينا وساعاتها كانت الأطول. منذ فترة طويلة لم نتلقّ أيّ خبر عن أبي، فلا معلومات أو أخبار عنه. ترجّح لدينا احتمال شهادته لكن لا شيء أكيد. انتظرنا كلّ الليل، بعضنا اغتنم ساعةً من النوم وبعضنا سلبه الشوق نعسه. ومع طلوع الصباح انطلقنا للبحث عن أبيّ، ورغم وعورة طريق الجنوب المدمّرة، توجّهنا إلى قريتنا "الطيبة" بأسرع ما يمكن.
انتشرت صورة ثلاثة شبّان حملوا جثمان والدهم الشهيد القائد الدحنون على أكتافهم صبيحة إعلان وقف النار في لبنان، رأينا ملامح وجوه تعالت على الفراق والأوجاع، وقاماتهم شمخت بعزمٍ حُسينيّ تحمل الشهيد بكلّ عزّة وفخر. في هذا المقال سنتعرف إلى الشهيد الدحنون بلسان عائلته
* أخيراً وجدناه!
يروي ابن الشهيد: "وصلت وأخواي وابن عمّي وعمّي إلى مكان الغارة التي استهدفته بحسب ما أخبرنا المجاهدون هناك. كان الدمار كبيراً، بحثنا كثيراً حتى وجدناه أخيراً، وبرفقته شهيدٌ صديقه. عرفنا والدنا من أغراضه الخاصّة، سمّاعات أذنيه، ملابسه... إذ لم تسعفنا ملامحه، ذرفنا دموعاً قليلة، ثمّ كبحناها فليس الآن وقتها. رفعناه من تحت الأنقاض، حملناه فوق الأكتاف، ووضعناه بجانب الشهداء، وبرحمة وحبّ غطيناه بما يحفظ جثمانه وعدنا به. تبيّن لاحقاً أنّه قد مضى على وجوده تحت الركام نحو 50 يوماً.
كنّا نحن من نقلنا خبر شهادته للعائلة. كان موقفاً صعباً، ولكنّ الله مدّنا بالصبر وأنزل السكينة والقوّة على قلوبنا في تلك اللحظات القاسية. كانت مشاعرنا تختلط بالفخر والاعتزاز لنيلنا هذا الوسام العظيم من جهة، وبالحزن والأسى من جهة أخرى لألم الفقد وهذه الخسارة الكبيرة.
* نشأته
ولد الشهيد محمد في السعوديّة عام 1976م، ونشأ في كنف عائلة كريمة تتمتّع بالقيم والمبادئ الأخلاقيّة، وملتزمة بالدين، وموالية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام . وقد تعلّم من ثورة الإمام الحسين عليه السلام العطاء والفداء، إذ كان مقاوماً منذ نعومة أظافره، وتربّى على أهداف السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله والسيّد عبّاس الموسويّ والسيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليهما). انتسب إلى العمل الجهاديّ في سنّ الـ15، وكان ذلك قبل التحرير. كان يخدم في إقليم التفاح وجرجوع وصافي، وتطوّر في عمله الجهاديّ من خلال خضوعه لدورات عدّة ذات مستويات عالية تهدف إلى تطوير الفرد. ولاحقاً، أصبح عمله مع القوّة الخاصّة، كما عمل في مجال المعلومات (الرصد، الاستطلاع الميدانيّ، رصد مواقع العدوّ،...)، إلى أن أصبح قياديّاً ذا خبرة في حزب الله.
كان ملتزماً دينيّاً. لُقّب بـ"فراس" لأنّه أثبت أنّه فطن ومخطّط عسكريّ وشجاع، وبطل مغوار مقدام. كان زوجاً محبّاً وشابّاً حنوناً، يحبّ أن يسعد من حوله.
وقد لُقّب أيضاً بـ"الدحنون" لأنّه كان يقطف وردة الدحنون (شقائق النعمان) ويقدّمها لأمّه عندما كان صغيراً.
عند زيارة عائلته تعرف من دموعهم وابتساماتهم عمق شخصه وتأثيرهم فيه، ذاك القائد الذي كان يفكر في الجميع ويؤثّر في الجميعٍ، الذي يشتاقه اليوم جميعهم.
* دوره في تحرير الـ2000م
شارك في العمليّات الجهاديّة ما قبل التحرير من قبيل زرع الكمائن في المواقع، والمشاركة في دوريّات استطلاعيّة داخل الشريط المحتلّ وصولاً إلى الطيّبة التي كان يحتلّها العدوّ الصهيونيّ ولجنوده نقاط يمكثون فيها. وكان من القلّة الذين استطاعوا أن يصلوا إلى الداخل المحتلّ ويرصدوا حركات العدوّ من أجل استهدافهم.
عند عودة أهالي البلدات المحتلّة إلى قراهم، ورؤيتهم المجاهدين حولهم، تأكّدوا عندها من اندحار العدوّ عن أراضيهم التي احتُلّت لسنوات طويلة، ومنها مشروع الطيّبة. وكان من ضمن المجاهدين الذين رابطوا في القرى بثيابهم العسكرية وسلاحهم لتأمين عودة أهالي الأرض إلى بيوتهم بسلام، فيما بدت عليهم علامات التعب الشديد لأنّهم كانوا بلا طعام وشراب لفترة من الوقت.
* حرب تمّوز 2006م
سطّر الدحنون أكبر ملاحم الاشتباك مع لواء النخبة من جنود العدوّ من مسافة صفر، وذلك بتكليف خاص به وحده من مسؤوله في مشروع الطيّبة، وكان معروفاً باحترافه القتالي وسرعته. استخدم تكتيكاً خاصّاً، ففتح النيران على الصهاينة محيطاً بجميع نوافذ المنزل الذي كانوا يختبئون فيه، ظنّوا أنّ فرقةً كاملةً أوقعت بهم، فتعالت أصواتهم بالصراخ والعويل، وقتل حينها سبعة جنود وأصاب تسعةً آخرون من لواء غولاني إصابات بالغة، وذلك باعتراف تقارير العدوّ.
خلال هذا الاشتباك الشرس، أصيب الدحنون في قدمه عند تغيير تموضعه، فارتمى أرضاً، ولكنّه لم يعبأ بما قد يحصل معه، فتابع أداء تكليفه، ثمّ راح يزحف ليصل إلى نقطة آمنة. عند وصوله، دخل قبو مبنى مؤلّف من أربع طبقات، ثمّ لاحظ أنّ مجموعةً للعدو لجأت إليه أيضاً. فظلّ الشهيد كامناً لهم رغم إصابته البليغة في وضعيّة استعداد للقتال لثلاثة أيّام واضعاً يده على الزناد، إلى أن غادروا دون أن يكتشفوا أمر وجوده.
بعد ذلك، نُقل الشهيد إلى المستشفى إلى أن استعاد عافيته. وبعد تلك الحادثة، سُئل الدحنون: "ما هذا الجنون؟ كيف استطعت أن تتقدّم وحدك نحو أكثر من عشرين جنديّاً؟"، فأجاب: "حبّ الحسين"، وما هذا الموقف إلّا اقتداء بعابس بن شبيب في كربلاء.
* دوره في معركة الدفاع عن المقدّسات
كان للدحنون دور قياديّ جهاديّ بارز ومميّز في سوريا خلال معركة الدفاع عن المقدّسات، حيث كان تكليفه إدارة بعض المناطق العسكريّة وقيادتها، وقد وفّقه الله لتحقيق الانتصارات فيها.
* دوره في معركة طوفان الأقصى
كان تكليفه في هذه المعركة قيادة المجاهدين في الجبهة الأماميّة. وكان مسؤولاً عن تدريبهم، وأشرف على عملهم لمعرفته بأسلوب عمل العدوّ، لأنّه كان على تماس مباشر معه سابقاً.
عندما حصل تفجير أجهزة "البايجرز"، وتلاه استشهاد القادة والأمين العامّ لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله والسيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليهما)، فضلاً عن أخيه الشهيد (طلال)، تأجّجت نيران الحسم والمواجهة في داخله أكثر، فأخذ الإذن بترك العمل القياديّ، من أجل أن يُتاح له القتال والاشتباك المباشر مع العدوّ الغاشم في أرضه في الطيّبة إلى جانب مجموعة مجاهدين. وكانت أمنيته أن يُستشهد فوق تراب قريته ليرويه بدمائه.
وعند وجوده في الطيّبة، نظّم مجموعات من المجاهدين، وأسعف الجرحى، ووضع خططاً دفاعيّة، وقسّم المهام. وكان هدفه خدمة المجاهدين ومساعدتهم قدر الإمكان. كما قرر أن ينتشل جسد أخيه الشهيد طلال من العراء.
استُهدف الدحنون وصديقه "الحاجّ راغب" بغارة حربيّة نفّذها العدوّ الإسرائيليّ بعد سنين من محاولة اغتياله في أرضه في الطيّبة، كما تمنّى. وقد أثمرت بالفعل مخطّطاته الدفاعيّة، بحيث أدّت إلى عدم دخول العدوّ إلى القرية لمدّة 66 يوماً، بعدما حصلت اشتباكات عظيمة أدّت إلى وقوع مجزرة في دبّابات العدوّ وجنوده.
* كلّنا دحنون
يتابع أبناؤه: "كان الجهاد أمراً مقدّساً عند أبينا، إذ كان يقول دائماً إنّ المسلمين الشيعة مظلومون، لذلك، من واجبنا أن لا نترك هذا النهج، بل علينا أن ندافع عنه لكي لا يُمحى أثرنا وذكرنا. الآن أدركنا سبب إصراره أن نحفظ والقرآن الكريم وخطبة الجهاد والأربعين حديثاً، وأن نتفقّه في المسائل الدينيّة. كلّها عوامل تزوّدنا بما يساعدنا في الثبات على هذا الدين. كما أنّه كان يشرح لنا طبيعة هذا العدوّ وأهدافه، وكيفيّة تفكيره وتخطيطه، حتّى نفهم جيّداً أيّ نوع من الأعداء نواجه ونقاتل.
لقد حقّق والدنا فوزاً عظيماً باستشهاده في هذه المعركة. على العدوّ الصهيونيّ أن يعرف أنّه لم يتخلّص منه، لأنّ أبناءه وكلّ المجاهدين حاضرون في الساح وجاهزون لمواجهته في أيّ وقت. وسوف يرى هذا العدوّ أنّ الدحنون موجود في كلّ واحد فينا. وعليه أن يعلم أيضاً أنّ بلدة الطيّبة، كما كلّ القرى، ستبقى شوكةً في عينه صامدة عزيزة، وسنحميها وندافع عنها كما عاهدنا أبي الشهيد، فهي ارتوت بدمائه وبدماء باقي الشهداء، وهو الذي أبى أن يستشهد إلّا في أرضه".
إنّنا أبناء أبو علي فراس (الدحنون) نقول: "إنّ والدي سيبقى قدوتنا ومنبع قوّتنا الذي درّبنا على الجهاد في سبيل الله، سنظلّ على نهجه أوفياء لهذا الخطّ مهما عظمت التضحيات".